قواعد السياسة الرشيدة بين الراعي والرعية
الشيخ عبد القادر شيبة الحمد
قوله عز وجل: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]، هذه قواعد السياسية الرشيدة التي تربط بين الراعي والرعية برباط الحب والثقة والطمأنينة.
قوله عز وجل: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]، هذه قواعد السياسية الرشيدة التي تربط بين الراعي والرعية برباط الحب والثقة والطمأنينة.
وفي قوله عز وجل لرسوله وحبيبه -محمد صلى الله عليه وسلم-: {فَاعْفُ عَنْهُمْ}، أي تجاوز عن مسيئهم فيما ليس من حقوق الله عز وجل، ولذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا ينتقم لنفسه قط، فقد روى البخاري في صحيحه([1]) من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: «ما خُيّر النبي -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمٌ، فإذا كان الإثم كان أبعدهما منه، والله ما انتقم لنفسه في شيء يؤتى إليه قط، حتى تنتهك حرمات الله، فينتقم لله»
وفي رواية لمسلم([2]) من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: «ما ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا قط بيده، ولا امرأة، ولا خادمًا، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط، فينتقم من صاحبه، إلا أن ينتهك شيء من محارم الله، فينتقم لله عز وجل»
کما روی البخاري([3]) ومسلم([4]) من حديث أنس -رضي الله عنه- قال: كنت أمشي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه جذبة شديدة، حتى نظرت إلى صفحة عاتق النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبته، ثم قال: مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك، ثم «أمر له بعطاء»
وفي أمر الله عز وجل لرسوله -صلى الله عليه وسلم- هنا بقوله تعالى له في المنهزمين عنه يوم أحد: {فَاعْفُ عَنْهُمْ}، مع قوله تبارك وتعالى عنهم: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} [آل عمران: 152]، مع ما قدمه في وصف المسارعين إلى مغفرة من ربهم وجنة عرضها السموات والأرض؛ حيث يقول عز وجل: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران: 134]، في كل ذلك إشارة إلى حب الله عز وجل للعفو عن عباده والصفح عنهم، ولذلك أمر إمام المرسلين محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بالعفو والصفح في مواضع كثيرة من القرآن العظيم، حيث يقول عز وجل: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، ويقول: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر: 85]، ويقول: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ} [الزخرف: 89].
وقوله عز وجل: {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ}، هذه هي القاعدة الثانية من قواعد السياسة الرشيدة، أي: واسأل الله عز وجل أن يغفر للمسيئين، كما قال عز وجل: {لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64].
أما القاعدة الثالثة من قواعد السياسة الرشيدة؛ فهي قوله عز وجل: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}، أي: واستخرج آراءهم فيما أن تفعله من الأمور ذات البال التي لم ينزل عليك وحي بها، تطييبًا
لقلوبهم وليستنّ بك ولاة أمور المسلمين من بعدك، وأصل الاستشارة والمشاورة مأخوذة من قولهم: شار العسل وأشاره واشتاره واستشاره إذا استخرجه من الخلية أو الوَقْبة، والوقبة هي الكُوّة والنُّقرة في الصخرة ونحوها يتخذها النحل بيتًا ويضع فيها العسل.
وقد أعظم الله عز وجل شأن الشورى؛ حيث يأمر هنا أكمل خلقه عقلًا وإدراكًا ووعيًا وفهمًا ومعرفة وخبرة بالأمور أن يستشير أصحابه -رضي الله عنهم- فيما لم ينزل عليه وحي فيه، ويستخرج ما عندهم من آراء، وكان إذا استشار أصحابه وأشاروا برأي واحد أخذ به صلى الله عليه وسلم، وإذا اختلفت آراؤهم اختار الأيسر منها على المسلمين.
وقد جعل الله عز وجل الشورى من أبرز صفات المسلمين حيث يقول عز وجل في سورة أطلق عليها اسم سورة الشوری: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، قال البخاري في صحيحه([5]): باب قول الله تعالى: {وأمرهم شورى بينهم} [الشورى: 38]، {وشاورهم في الأمر} [آل عمران: 159] «وأن المشاورة قبل العزم والتبين لقوله»: {فإذا عزمت فتوكل على الله} [آل عمران: 159] «فإذا عزم الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن لبشر التقدم على الله ورسوله»، ثم قال البخاري -رحمه الله-: «وكانت الأئمة بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره، اقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- ورأى أبو بكر قتال من منع الزكاة، فقال عمر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوا: لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله"، فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تابعه بعد عمر فلم يلتفت أبو بكر إلى مشورة إذ كان عنده حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة وأرادوا تبديل الدين وأحكامه، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من بدل دينه فاقتلوه» وكان القراء أصحاب مشورة عمر كهولًا كانوا أو شبانًا، وكان وقافًا عند كتاب الله عز وجل»([6]).
ويتحتم على المستشار أن يمحّض من استشاره النصح وأن يخلص في الاستشارة، وأن يكون أمينًا، وأن يشير عليه بما فيه المصلحة، فقد روى أبو داود([7]) والترمذي([8]) وقال: هذا حديث حسن، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال صلى الله عليه وسلم: «المستشار مؤتمن»، وروى ابن ماجه([9]) من حديث أبي مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «المستشار مؤتمن»، قال في الزوائد([10]): "إسناد حديث أبي مسعود صحيح، رجاله ثقات".
ولا شك أنه ما ندم من استشار، وينبغي أن يستشار في كل أمر أهل الخبرة به بعد الوثوق من سلامة دينهم وعقولهم وحبهم للخير ونصحهم كما قال الشاعر:
شاور صديقك في الخفي المشكل ** واقبل نصيحة ناصح متفضل
فالله قد أوصى بذاك نبيه ** في قوله: شاورهم وتوكــــــــــــــــــــــــل
وكما قال الشاعر الآخر:
وإنْ بابُ أمرٍ عليك التوی ** فشاور لبيبًا ولا تعصه
ومعنى قوله عز وجل: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}، أي: فإذا صح عزمك على إمضاء ما تريد، من جهاد عدوك مما رأيت فيه المصلحة لدينك وأمتك؛ فامض لما تريد بغض النظر عن خلاف من خالفك ووفاق من وافقك، وكن في عزمك معتمدًا على الله وحده، ومتوكلًا عليه دون غيره، راضيًا بما يقضيه الله عز وجل؛ لأنه يحب المعتمدين عليه، وفي
هذا دلیل ظاهر على أن بذل الأسباب والاستشارة لا ينافي التوكل على الله([11]).