أفضل الأعمال

الشيخ عبد القادر شيبة الحمد

أفضل الأعمال

مقال من العدد الثالث من أعداد مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
يتحدث المقال عن توجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأفضل الأعمال من الإيمان بالله تعالى إلى الجهاد إلى عتق الرقاب إلى الصدقة.

روى الشيخان واللفظ لمسلم من طريق أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: "قلت: "يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟" قال: «الإيمان بالله والجهاد في سبيله»". قال: "قلت: "أي الرقاب أفضل؟" قال: «أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنًا»"، قال: "قلت: "فإن لم أفعل؟" قال: «تعين صانعًا أو تصنع لأخرق»". قال: "قلت: "يا رسول الله أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟" قال: «تكف شرك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك»".

لقد قرر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أجاب به الصحابي الجليل أبا ذر رضي الله عنه أسس التوجيهات التي تصل بالمجتمع الإنساني إلى أسمى درجات الكمال، وقد بين صلى الله عليه وسلم أن الآخذ بهذه التوجيهات النبوية الكريمة قائم بأفضل الأعمال.

وأولى هذه المبادئ الإسلامية التي تضمنها هذا التوجيه النبوي الكريم هو الإيمان بالله، ولاشك أن الإيمان بالله هو أول قاعدة من قواعد العدل، وهو الباب الرئيسي الذي لابد من ولوجه لمن أراد السلوك إلى الله تبارك وتعالى، وهو كذلك الأساس المتين الذي تقوم عليه الوحدة الإنسانية بين الإنسان وأخيه الإنسان، ففي بوتقة الإيمان بالله تنصهر جميع الفروق اللونية والجنسية والوطنية والأخوية وتموت في ظله جميع الحزازات العنصرية وبها ولا شك تقوم الدعامة الحقيقية لحقوق الإنسان.

أما التوجيه الثاني من هذه التوجيهات الرشيدة التي أشار إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها تفرض على من أنعم الله عليه بهذه النعمة العظيمة نعمة الإيمان بالله تفرض عليه أن يدعو الناس إلى مشاركته في هذه النعمة، وأن يبذل كل جهد وأن يستفرغ كل وسع في دعوة الناس إليها وحملهم عليها، وأن يسلك في ذلك كل طريق معتدل يوصل إلى هذه الغاية، ويشيع في الأمم هذا الخير حتى يسعدوا بالله وحتى يسلموا من عذاب الله، وحتى يهتدوا إلى طريق مستقيم.

أما التوجيه الثالث من التوجيهات النبوية الكريمة التي تضمنها هذا الحديث الجليل فهو لفت نظر الإنسان في كافة أنحاء الأرض إلى الإسلام يقرر أن من أقرب ما يقرب العبد من ربه تحرير العبيد وفك الرقاب وبذل نفيس المال في سبيل هذا التحرير، وقد أكثرت الشريعة الإسلامية من الحض على منح الحريات وفك الرقاب وساقت في ذلك نصوصًا كثيرة. بل جعلت أن المسلم لا يقتحم العقبة الحقيقية التي تحول بين العبد وبين مرضاة الله إذا كان من أهل القدرة على تحرير الرقاب إلا إذا منح هذه الحرية لهذه الرقاب وأعان اليتامى والضعفاء ولو بلقمة عيش تشد أصلابهم وفي ذلك يقول الرب تبارك وتعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [البلد:11-18].

بل جعل الرب تبارك وتعالى تحرير العبيد أحد المصارف الثمانية التي تنفق فيها أموال المسلمين الزكوية مع كثرتها، وفي ذلك يقول الرب تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:60] بل وعد الله تبارك وتعالى من يعتق رقبة بأن يعتق منه بكل عضو أعتق عضوًا منه من النار، لذلك روى البخاري من حديث سعيد بن مرجانة صاحب علي بن الحسن رضي الله عنهما قال سعيد: قال لي أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيما رجل أعتق امرءًا مسلمًا استنقذ الله بكل عضو منه عضوًا منه من النار» قال سعيد بن مرجانة رحمه الله فانطلقت به، أي بهذا الحديث، إلى علي بن الحسين فعمد علي رضي الله إلى عبد له قد أعطاه به عبد الله بن جعفر عشرة آلاف درهم أو ألف دينار فأعتقه، وقد أقامت الشريعة الإسلامية أسبابًا شتى تهدف إلى تحرير الأرقاء وإعتاق العبيد، فقد جعل الإسلام من أنواع الكفارات تحرير الرقاب، ففي كفارة اليمين يقول تبارك وتعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة:89] وفي كفارة القتل يقول: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] ثم يقول: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] ثم يقول: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] وفي كفارة الظهار يقول: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة:3]. بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بالعتاقة عند حدوث بعض البلايا أو وقوع بعض المخوفات فلقد روى البخاري رحمة الله من طريق أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعتاقة في كسوف الشمس..." وفي لفظ لها رضي الله عنها: "كنا نؤمر عند الكسوف بالعتاقة".

وكلما كانت الرقبة ذات نفع متعد كأن يكون المملوك مجيدًا لبعض أنواع الصناعات أو الفنون فإن الشريعة الإسلامية تجعل عتقه أفضل أنواع العتق. ولذلك أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا ذر رضي الله عنه حينما سأله أي الرقاب أفضل فقال صلى الله عليه وسلم: «أغلاها ثمنًا» وفي لفظ البخاري: «أغلاها ثمنًا وأنفسها عند أهلها» وهذا من المقررات في الشريعة الإسلامية فإنَّ أحسن ما يتصدق به ما كان محبوبًا طيبًا ولذلك يقول الله تبارك وتعالى: {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] ويقول: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [البقرة:267].

أما التوجيه الرابع من هذه التوجيهات النبوية الكريمة المرشدة لأفضل الأعمال وأحسن الخصال فهو التعاون العملي، ولا سيما ممن لا يستطيع أن يمد يد المساعدة بالتعاون المالي، وقد قسم رسول الله -صَلَّى الله عَلِيْهِ وَسَلَّمْ- هذا النوع من التعاون إلى قسمين وجعل الأول منهما إعانة الصانعين، وفي هذا الإرشاد النبوي إشارة واضحة إلى ما يجب أن يكون عليه المجتمع الإسلامي، وإنه المجتمع المثالي في الحقل التعاوني وفي قوله -صَلَّى الله عَلِيْهِ وَسَلَّمْ- «تعين صانعًا» ما يدل على أن الشريعة الإسلامية تستحب إشاعة الصناعة وبذل المعونة لذوي الصناعات في الأفراد أو الشركات، فرب صانع لا يجد المواد الولية التي لابد منها في صناعته ورب صانع لا يجد اليد العاملة التي تحقق غايته.

فقد حض رسول الله -صَلَّى الله عَلِيْهِ وَسَلَّمْ- من يريد أعلى الدرجات ومن يبتغي أفضل الأعمال أن يسارع بمد يد المساعدة وعلى قدر جهده وطاقته لمعاونة الصناع وتقوية الصناعات، كما أشار رسول الله -صَلَّى الله عَلِيْهِ وَسَلَّمْ- إلى أن من أعظم ما يقرب العبد من ربه كذلك مساعدة الأخرق الضائع الذي لا يستطيع الصناعة إما بتدريبه على الصناعة أو بالصناعة له، وفي ذلك يقول رسول الله -صَلَّى الله عَلِيْهِ وَسَلَّمْ-: «أو تصنع لأخرق».

وفي هذا كذلك تكثير لليد الصانعة وبهذا تستغني الأمة الإسلامية في صناعاتها وتستقل استقلالًا ذاتيًا في هذا السبيل، ولما قال أبو ذر -رَضي الله عنهُ- لرسول الله -صَلَّى الله عَلِيْهِ وَسَلَّمْ-: «أرأيت إن ضعفت عن ذلك؟» أي ماذا أفعل إن عجزت عن إعانة الصانع أو الصناعة لبضائع فأجيب من مشكاة النبوة بقوله: «تكف شرك عن الناس» أي فهذا صدقتك. ولذلك روى البخاري من حديث أبي موسى الأشعري -رَضي الله عنهُ- أن رسول الله -صَلَّى الله عَلِيْهِ وَسَلَّمْ- قال: «على كل مسلم صدقة» قالوا: "فإن لم يجد؟" قال: «فيعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق» قالوا: "فإن لم يستطع؟" قال: «فيعين ذا الحاجة الملهوف» قالوا: "فإن لم يفعل؟" قال: «فليأمر بالخير» قالوا: "فإن لم يفعل؟" قال: «فليمسك عن الشر فإنه له صدقة».

الموقع الرسمي للشيخ عبد القادر شيبة الحمد

shaibatalhamd.net