جوانب من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم
الشيخ عبد القادر شيبة الحمد
مقال من مقالات العدد الخامس عشر من أعداد مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على رسول الله وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين.
أما بعد؛
فلهجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة جوانب مضيئة، تنير السبيل، وتهدي الطريق كسائر ما ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد روى البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث البراء بن عازب -رضي الله عنهما- واللفظ للبخاري، قال البراء: "اشترى أبو بكر -رضي الله عنه- من عازب -رضي الله عنه- رحلًا بثلاثة عشر درهمًا؛ فقال أبو بكر -رضي الله عنه- لعازب: مر البراء فليحمل إليّ رحلي، فقال عازب: لا، حتى تحدثنا كيف صنعت أنت ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين خرجتما من مكة، والمشركون يطلبونكم، قال: ارتحلنا من مكة فأحيينا أو سرينا ليلتنا ويومنا حتى أظهرنا، وقام قائم الظهيرة، فرميت ببصري هل أرى من ظل فآوي إليه، فإذا صخرة أتيتها، فنظرت بقية ظل لها فسويته ثم فرشت للنبي -صلى الله عليه وسلم- فيه، ثم قلت له: اضطجع يا نبي الله، فاضطجع النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم انطلقت أنظر ما حولي، هل أرى من الطلب أحدًا؟ فإذا أنا براعي غنم يسوق غنمه إلى الصخرة، يريد منها الذي أردنا، فسألته فقلت له: لمن أنت يا غلام؟ قال: لرجل من قريش، سماه، فعرفته، فقلت: هل في غنمك من لبن؟ قال: نعم، قلت فهل أنت حالب؟، قال: نعم، فأمرته فاعتقل شاة من غنمه، ثم أمرته أن ينفض ضرعها من الغبار، ثم أمرته أن ينفض كفيه، فقال هكذا: ضرب إحدى كفيه بالأخرى، فحلب لي كثبة من لبن، وقد جعلت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- إداوة على فمها خرقة، فصببت على اللبن حتى برد أسفله، فانطلقت به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فوافقته قد استيقظ، فقلت: اشرب يا رسول الله، فشرب حتى رضيت، ثم قلت: قد آن الرحيل يا رسول الله؟ قال: بلى.
فارتحلنا والقوم يطلبوننا، فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له، فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله! فقال: «لا تحزن إن الله معنا»"، وفي رواية مسلم: "فدعا عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فارتطمت فرسه إلى بطنها -أرى- فقال: قد علمت أنكما قد دعوتما عليّ فادعوا لي، فوالله لكما أن أرد عنكما الطلب، فدعا الله فنجا، فرجع لا يلقى أحدًا إلا قال: قد كفيتكم ما ههنا، فلا يلقى أحدًا إلا رده، قال: ووفي لنا"، وفي لفظ مسلم: "فلما دنا دعا عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فساخ فرسه في الأرض إلى بطنه ووثب عنه، وقال: يا محمد قد علمت أن هذا عملك، فادع الله أن يخلصني مما أنا فيه، ولك عليّ، لأعمين على من ورائي، وهذه كنانتي فخذ سهمًا منها فإنك ستمر على إبلي وغلماني بمكان كذا وكذا فخذ منها حاجتك، قال: «لا حاجة لي في إبلك»".
وقد روى البخاري في صحيحه من حديث أنس -رضي الله عنه- أن عبد الله بن سلام -رضي الله عنه- بلغه مقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة فأتاه يسأله عن أشياء؛ فقال: "إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟"
قال: «أخبرني به جبريل آنفًا»، قال ابن سلام: "ذاك عدو اليهود من الملائكة".
قال: «أما أول أشراط الساعة؛ فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة؛ فزيادة كبد الحوت، وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد»، قال: "أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله"، قال: "يا رسول الله، إن اليهود قوم بُهت فاسألهم عني قبل أن يعلموا بإسلامي"، فجاءت اليهود فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أي رجل عبد الله بن سلام فيكم؟» قالوا: "خيرنا وابن خيرنا، وأفضلنا وابن أفضلنا"، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام؟»، قالوا: "أعاذه الله من ذلك"، فأعاد عليهم فقالوا مثل ذلك، فخرج إليه عبد الله فقال: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله"، قالوا: "شرنا وابن شرنا"، وتنقصوه، قال: "هذا كنت أخاف يا رسول الله".
وقد أشار الله -تبارك وتعالى- إلى أسباب وآثار هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضي الله عنهم- إلى المدينة المنورة، فوصفهم بأنهم {أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8].
وكما قال فيهم: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:40].
وقد وصف كعب بن زهير بن أبي سلمى المزني -رضي الله عنه- استجابة المهاجرين لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخروجهم من ديارهم وأموالهم ينصرون الله ورسوله حيث يقول:
في فتية من قريش قال قائلهم *** ببطن مكة لما أسلموا زولوا
زالوا فما زال أنكاس ولا كشف *** عند اللقاء ولا ميل معازيل
يمشون مشي الجمال الزهر يعصمهم *** ضرب إذا عرّد السود التنابيل
شم العرانين أبطال لبوسهموا *** من نسج داود في الهيجا سرابيل
بيض سوابغ قد شكت لها حلق *** كأنها حلق القفعاء مجدول
ليسوا مفاريح إن نالت رماحهموا *** قومًا وليسوا مجازيعًا إذا نيلوا
لا يقع الطعن إلا في نحورهموا *** وما هم عن حياض الموت تهليل
وقد روى البخاري ومسلم من حديث سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم».
الشيخ عبد القادر شيبة الحمد
المدرس بالجامعة