في ظلال آية الكرسي
الشيخ عبد القادر شيبة الحمد
هذه آية الكرسي وهي أعظم آية في كتاب الله، وقد جعل الله تبارك وتعالى فيها وضمّنها ما لم تتضمنه آية واحدة أخرى في كتاب الله عز وجل، وما تضمنته إنما تتضمنه آيات كثيرة لا آية واحدة، وقد جعل الله تبارك وتعالى فيها من الخصائص الشيء الكثير ما صحت بذلك الأخبار عن رسول الله ﷺ.
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255].
هذه آية الكرسي وهي أعظم آية في كتاب الله، وقد جعل الله تبارك وتعالى فيها وضمّنها ما لم تتضمنه آية واحدة أخرى في كتاب الله عز وجل، وما تضمنته إنما تتضمنه آيات كثيرة لا آية واحدة، وقد جعل الله تبارك وتعالى فيها من الخصائص الشيء الكثير ما صحت بذلك الأخبار عن رسول الله ﷺ.
فقد قال البخاري في صحيحه: قال عثمان بن الهيثم أبو عمرو، حدثنا عوف، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: وكلني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته، وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني محتاج، وعلي عيال ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك البارحة»، قال: قلت: يا رسول الله، شكا حاجة شديدة، وعيالا، فرحمته، فخليت سبيله، قال: «أما إنه قد كذبك، وسيعود»، فعرفت أنه سيعود، لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنه سيعود، فرصدته، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال، لا أعود، فرحمته، فخليت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك»، قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا، فرحمته، فخليت سبيله، قال: «أما إنه قد كذبك وسيعود»، فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله، وهذا آخر ثلاث مرات، أنك تزعم لا تعود، ثم تعود قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: ما هو؟ قال: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} [البقرة: 255]، حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما فعل أسيرك البارحة»، قلت: يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها، فخليت سبيله، قال: «ما هي»، قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}، وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح - وكانوا أحرص شيء على الخير - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة»، قال: لا، قال: «ذاك شيطان»([1]).
فقراءة آية الكرسي تطرد الشياطين، وتحفظ المسلم من شرهم وخبثهم، وقد روى مسلم([2]) من حديث أبي بن كعب أن النبي ﷺ قال: «يا أبا المنذر، أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟» قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟» قال: قلت: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} [البقرة: 255]. قال: فضرب في صدري، وقال: «والله ليهنك العلم أبا المنذر».
وقد اشتملت هذه الآية العظيمة على عشر جمل:
الجملة الأولى، هي قوله عز وجل: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، أي: الله الذي لا يستحق العبادة إلا هو، وقد اشتملت هذه الجملة على كلمة التوحيد التي هي مفتاح الإسلام ومفتاح الجنة، وقد تقدم مزيد بيان لمعناها في تفسير قوله عز وجل: {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163].
والجملة الثانية من الجمل العشر اشتملت عليها هذه الآية العظيمة هي قوله عز وجل: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ}، والحي خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو الحي القيوم، والحي القيوم مذكوران مع في القرآن في ثلاث سور: أولها في هذا المقام من سورة البقرة، والثاني في مطلع سورة آل عمران: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [آل عمران: 2-3]، والثالث في سورة طه: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه: 111].
وهذان الاسمان من أعظم أسماء الله الحسنى؛ حتى قيل إنها الاسم الأعظم، فإنهما يتضمنان إثبات صفات الكال لله عز وجل أكمل تضمن وأصدقه، فعلى هذين الاسمين الكريمين مدار الأسماء الحسنى كلها وإليها ترجع معانيها، لأن الحياة مستلزمة لجميع صفات الكمال، والقيوم متضمن کمال غناه وكمال قدرته، والله تبارك وتعالى موصوف بالحياة لا يموت أبدا؛ ولذلك قال عز وجل: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [الفرقان: 58]، فحياته عز وجل حياة كاملة باقية لازمة لذاته لا تقبل الفناء أبدا، بخلاف حياة غيره فإنها حياة ممكنة قابلة للزوال والفناء، والقيوم هو القائم بنفسه فلا يحتاج إلى غيره بوجه من الوجوه، المقيم لغيره فلا قيام لغيره إلا بإقامته عز وجل له.
والجملة الثالثة من جمل هذه الآية العظمى هي قوله تبارك وتعالى: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ}، السنة مقدمة النوم وهي حالة فتور وارتخاء تسبق الاستغراق في النوم، وقد يطلق عليها اسم النعاس، ونفي السنة والنوم مستلزم لكمال حياته وقيوميته. قال ابن جریر -رحمه الله- : "{الله لا إله إلا هو الحي} الذي لا يموت، {القيوم} على كل ما هو دونه بالرزق والكلاءة والتدبير والتصريف من حال إلى حال، لا تأخذه سنة ولا نوم، لا يغيره ما يغير غيره، ولا يزيله عما لم يزل عليه تنقل الأحوال وتصريف الليالي والأيام، بل هو الدائم على حال، والقيوم على جميع الأنام، لو نام كان مغلوبا مقهورا؛ لأن النوم غالب النائم قاهره، ولو وسن لكانت السماوات والأرض وما فيهما دكا؛ لأن قيام جميع ذلك بتدبيره وقدرته، والنوم شاغل المدبر عن التدبير، والنعاس مانع المقدر عن التقدير بوَسَنِه"([3]).
وقد روى مسلم في صحيحه([4]) من حديث أبي موسی -رضي الله عنه- قال: "قام فينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخمس كلمات، فقال: (إن الله عز وجل لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه). وسبحات وجهه أي نوره وجلاله وهاؤه.
أما الجملة الرابعة من جمل هذه الآية الكريمة؛ فهي قوله تبارك وتعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}، أي: إن جميع الكائنات في السموات وفي الأرض ملك لله وتحت قهره وسلطانه، فهو خالقها ومدبرها والمهيمن عليها، والإنس والجن والملائكة جميعًا عبيد له، وكما قال عز وجل: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 93-95]، وإذا كان الله عز وجل هو مالك جميع ذلك بغير شريك ولا ند وهو وحده خالق كل شيء؛ فلا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له.
والجملة الخامسة من جمل هذه الآية الكريمة، هي قوله تبارك وتعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}، أي: من هذا الذي يجرؤ على أن يشفع لأحد من غير إذن الله له بالشفاعة؟ والمراد بالاستفهام هنا النفي، أي لا أحد يشفع عنده إلا بإذنه بسبب عظمة الله وكبريائه وجلاله؛ فلا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد إلا أن يأذن الله له في الشفاعة، ولذلك عندما يطلب الناس من الأنبياء ليشفعوا لهم عند الله في الموقف العظيم فيتأخر عنها الأنبياء ويحيلهم آم على نوح، ثم يحيلهم نوح على إبراهيم، ثم يحيلهم إبراهيم علی موسی، و موسی علی عیسی، ثم يحيلهم عیسی علی سید المرسلين محمد صلى عليهم أجمعين، فيأتي رسول الله ﷺ تحت العرش ليستأذن في الشفاعة، ويخر لله ساجدًا ضارعًا إليه في الإذن له بالشفاعة، ويلهم تحميدات وتقديسات لله عزوجل ما أُلهمها من قبل؛ فينادي: يا محمد ارفع رأسك، وقل تُسمع، واشفع تُشفع([5]).
أما الجملة السادسة من جمل هذه الآية العظيمة؛ فهي قوله عز وجل: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ}، أي: إن علمه محيط بجميع خلقه، وسائر الكائنات ماضيها وحاضرها ومستقبلها، لا يتحرك متحرك منها ولا يسكن ساكن إلا بعلمه، كما قال عز وجل: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59].
والجملة السابعة من جمل هذه الآية العظمى هي قوله عز وجل: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ}، أي: ولا يطلع أحد من خلق الله من ملك مقرب أو نبي مرسل أو غيرهما على شيء من علم الله إلا بما أراد الله تبارك وتعالى اطّلاعه على ذلك وأطلعه عليه،كما أنه لا يعلم أحد شيئًا عن ذاته المقدسة وأسمائه الحسنى وصفاته العلي إلا ما يُعلِّمه الله من ذلك، ولذلك يقول عز وجل: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110]، وكما قال عز وجل: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن: 26-28]، ولذلك أخبر عز وجل عن ملائكته قولهم: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32]، وإذا كان العلم لله وحده، وغيره لا يعلم شيئا من العلم إلا ما يعلِّمه الله؛ فكيف يُعبد غيرُ الله؟!
والجملة الثامنة من جمل هذه هذه الجملة هي التي سميت الآية العظيمة، هي قوله تبارك وتعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}، هذه الجملة هي التي سمیت الآية كلها باسم كلمة منها، فقيل لها آية الكرسي. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وقد سئل هل العرش والكرسي موجودان أو أن ذلك مجاز؟ فأجاب: الحمد لله، بل العرش موجود بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها، وكذلك الكرسي ثابت بالكتاب والسنة وإجماع جمهور السلف، وقد نقل عن بعضهم: أن كرسيه علمه، وهو قول ضعيف؛ فإن علم الله وسع كل شيء كما قال: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا}، والله يعلم نفسه ويعلم ما كان وما لم يكن، فلو قيل وسع علمه السموات والأرض لم يكن هذا المعنى مناسبًا؛ لا سيما وقد قال تعالى: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا}؛ أي لا يُثقِلُه ولا يَكرِثُه، وهذا يناسب القدرة لا العلم، والآثار المأثورة تقتضي ذلك"([6]).
أما الجملة التاسعة؛ فهي قوله عز وجل: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا}، أي: لا يُتعبه حفظ السموات والأرض، وهذا النفي مستلزم لکمال قدرته، يقال: آدَه الأمر، إذا بلغ منه المجهود وأتعبه، وقد نفى الله عز وجل عن نفسه المقدسة أن يصيبه تعب من حفظ السموات والأرض، كما أنه لم يصبه تعب في خلق السموات والأرض كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38]، وفيها رد على اليهود -قبحهم الله- الذين يزعمون في أول صفحة من التوراة التي حرفوها بأيديهم أن الله تعب لما خلق السموات والأرض واستراح يوم السبت، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
أما الجملة العاشرة من هذه الآية العظمی؛ فهي قوله عز وجل: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}، أي وهو عز وجل الكبير المتعال القاهر فوق عباده([7]).