وجوب الحكم بما أنزل الله

2020-06-28
بعد أن أثنى الله عز وجل على كتابه الكريم المنزّل على نبيه العظيم سيد الخلق وأفضل الرسل صلى الله عليه وسلم، ووصف هذا الكتاب العظيم بأنه مصدّق للكتب السماوية ومهيمن عليها؛ حيث اشتمل على ما فيها من الحق الثابت، وبيّن ما ألحقه أحبار السوء بها من التحريف والتغيير والتأويل الفاسد.

قال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 49-50]، بعد أن أثنى الله عز وجل على كتابه الكريم المنزّل على نبيه العظيم سيد الخلق وأفضل الرسل صلى الله عليه وسلم، ووصف هذا الكتاب العظيم بأنه مصدّق للكتب السماوية ومهيمن عليها؛ حيث اشتمل على ما فيها من الحق الثابت، وبيّن ما ألحقه أحبار السوء بها من التحريف والتغيير والتأويل الفاسد، واحتوی القرآن على جميع ما يحتاجه الناس لمعاشهم ومعادهم إلى يوم القيامة، وأشار إلى علوم الدنيا والآخرة التي لم تذكر في كتاب سماوي سواه كما أقر بذلك المنصفون من غير أتباعه، وقد نقلت الصحف السعودية الصادرة في يوم الجمعة الموافق للثامن من شهر صفر سنة عشر وأربعمائة وألف من الهجرة عن رئيس ألمانيا الغربية أنه ذكر أن القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي فسّر علم الأجنة، حيث قالت هذه الصحف: اعترف رئیس جمهورية ألمانيا الغربية "ريتشارد فایتسکر" أن القرآن الكريم هو الكتاب السماوي الذي استطاع أن يفسر علم الأجنة، وقال الرئيس الألماني الذي كان يتحدث في ندوة عقدها مع طلبة وطالبات الجامعات الألمانية: إن هذا العلم عجز عن تفسيره العلماء حيث لم يشر إليه غير الكتاب الكريم وهو كتاب الله عز وجل" اهـ.

وبعد ثناء الله عز وجل على هذا القرآن العظيم، وأمر نبيه أن يحكم بين المحتكمين إليه من أهل الكتاب وسائر أهل الملل بهذا الكتاب العظيم، وتحذيره من اتباع أهوائهم المنحرفة عن الهدى والعدل المائلة إلى الشهوات والشبهات، بعد ذلك كله أعاد التأكيد على رسوله سيد البشر محمد -صلى الله عليه وسلم- أن يلتزم بأحكام هذا القرآن، وأن يحذر من اتباع أهواء أعداء الله الذين يحرصون على فتنته، ولو عن بعض ما أنزل الله، حيث يقول عز وجل هنا: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ}، أي: وأن اقض بينهم بالقرآن الذي أنزله الله عز وجل عليك مع تعاليمه، ولا تنقد لآراء وشهوات الذين لم ينقادوا للحق من أهل الكتاب وغيرهم، وكن على حذر منهم فإنهم يحرصون على أن يصرفوك عن أحكام الله وحدوده التي أنزلت إليك أو عن بعضها إن عجزوا عن صرفك عن جميعها، وأن في قوله عز وجل: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ}، مفسِّرة بمعنى أي، كقوله عز وجل: {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [المؤمنون: 27]، ومجيء (أن) في هذا المقام؛ لتأكيد وجوب الحكم بما أنزل الله، حيث اشتمل قوله تبارك وتعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}، بعد قوله تعالى في الآية السابقة: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 48]، على مزيد من تأكيد الحكم بما أنزل الله، وهو يلفت الانتباه إلى أنه يتحتم على كل من يريد العدل والإحسان ألا يحيد قيد أنملة عن الحكم بكتاب الله، وأن الذين في قلوبهم مرض لا يحبون الحكم بشريعة الله، ويحملهم انقيادهم لأهوائهم على محاولة صرف قضاة الشريعة عن التحاكم إليها، والاحتكام بها، وأنهم إن عجزوا عن صرف الناس عن جميعها فسيحاولون صرفهم عن بعضها، ولذلك لفت الله عز وجل الانتباه إلى وجوب ملازمة الحكم بما أنزل الله حيث أورد ذلك بأمر ونهي وتحذير متتابعات؛ حيث قال عز وجل: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ}، مع ما اشتملت عليه الآية السابقة من لفت الانتباه إلى ذلك.

وقد نبه الله تبارك وتعالى عباده إلى أن الحكم بغير ما أنزل الله يجلب لمن فعل ذلك أو انقاد له؛ مصائب عاجلة وبلایا ورزایا تنزل بساحتهم، حيث يقول عز وجل هنا: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ}، أي: فإن أعرضوا عن الحكم بشريعة الله المنزلة على أفضل خلقه محمد؛ فأيقن أن الله عز وجل سيصيبهم بمصائب عقوبة لهم على بعض ذنوبهم مع ما يدخره لهم من عذاب جهنم في الآخرة، وفيه إشارة إلى أن بعض الذنوب يعجل الله عقوبة أهلها مع ما يدخره لهم في الآخرة كالحكم بغير ما أنزل الله؛ لأن ذلك يشتمل على البغي على شريعة الله وهو أفحش البغي، وقد روى أبو داود([1]) والترمذي([2]) وقال: حديث صحيح، من حديث أبي بكرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «ما من ذنب أجدر أن يعجّل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا، مع ما يدخر له في الآخرة مثل البغي وقطيعة الرحم»، وقد أشار الله تبارك وتعالى إلى ذلك حيث يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يونس: 23].

وقد أشار الله عز وجل في غير موضع من كتابه إلى أن الحكم بغير ما أنزل الله يجلب على أهله مصائب و بلايا عاجلة؛ إشعارا بفداحة جرم تحكيم أهواء الناس وشهواتهم والإعراض عن تحكيم شريعته، حيث يقول: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 60-65].

والإرادة في قوله عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ}، هي الإرادة الكونية القدرية، وفي ذلك لفت انتباه إلى عدله وأنه لا يظلم أحدا، والتعبير بالبعض في قوله: {بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ}،

إشعار بفداحة جرم من يعرض عن تحکیم شريعة الله، والإشارة إلى أن لهم ذنوبًا كثيرة ولو يؤاخذهم الله بذنوبهم ما ترك على ظهرها من دابة منهم.

وقوله تبارك وتعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ}، هذه جملة اعتراضية تذييلية؛ لتقرير مضمون ما قبلها، مشتملة على مواساة رسول الله -صلى الله علبه وسلم- مما يلاقيه من عنت اليهود وغيرهم، أي: وإن كثيرا من الناس لمتمردون في الكفر، مصرون عليه، خارجون عن الحدود التي شرعها الله عز وجل لعباده، منحرفون عن الحق إلى الضلال، وعن النور إلى الظلمات، ناكبون عن الهدی، كما قال عز وجل: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103]، وكما قال عز وجل: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ  إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 116].

والكيّس من الناس من اتبع الحق ولو كان مع رجل واحد، واجتنب الباطل ولو كان عليه الكثير من الناس، وكما أشار إلى ذلك العليم الحكيم حيث قال: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]، وكما قال دواد -علیه السلام- فيما حكى الله عز وجل عنه: {لَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24].

ومعنى قوله عز وجل: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}، أي: أيريدون التحاكم بأحكام أهل الجاهلية الذين لا يؤمنون بكتاب ولا ينقادون لرسول، وإنما يبنون أحكامهم على الهوى والجهل، والمداهنة؟! والاستفهام للإنكار عليهم، والتعجيب من حالهم، والتوبيخ لهم؛ فإن التولي عن حكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منكر فظيع عجيب، وطلب حكم الجاهلية أقبح وأعجب وأغرب، وأعظم كفرًا، وأشد فسقًا وظلمًا.

قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقوله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}، ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات، التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكزخان، الذي وضع لهم الياسق، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعًا متبعا، يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله، حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير، قال الله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}؛ أي: يبتغون ويريدون، وعن حكم الله يعدلون. {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أي: ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه، وآمن به وأيقن وعلم أنه تعالى أحكم الحاكمين، وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، العادل في كل شيء"([3]).

ولا شك أن الجاهلية لا يرضى عاقل أن ينقاد لأحكامها، سواء كانت جاهلية عربية أو كانت جاهلية أعجمية، وسواء كانت جاهلية قديمة أو كانت جاهلية حديثة، إذ كلها تدور في فلك الهوى والجهل مبتعدة عن المنهج الذي وضعه الحكيم العليم الخبير بطبائع خلقه، ومصالح عباده، ومن المجرّبات المسلّمات أن جميع القوانين الوضعية لا بقاء لها ولا دوام، ولا شمول، ولا تربي في

نفوس الناس ما تربيه شريعة الله في نفوسهم من النفور من الجرائم في السر والعلن، والغيب والشهادة، ولذلك عد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيمن هم أبغض الناس إلى الله من ابتغي في الإسلام سنة الجاهلية، فقد روى البخاري في صحيحه([4]) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله ﷺ قال: "أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه"([5]).

 

 

[1]- رقم (4902).

[2]- رقم (2511).

[3]- تفسير ابن كثير 3/131.

[4]- رقم (6882).

[5]- تهذيب التفسير وتجريد التأويل، عبد القادر شيبة الحمد 4/186-191.

التصنيفات

التعليقات (0 تعليق) إضافة تعليق