وقفة مع قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ}
قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 44-46].
لقد وصف الله تبارك وتعالى هنا رؤساء بني إسرائيل المعاصرين لرسوله وحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم، بأنهم يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم؛ فلا يحملونها على البر حالة كونهم يقرءون التوراة ويعلمون عقوبة الله عزوجل لمن نهى عن المنكر وهو يفعله، ويأمر بالمعروف وهو لا يفعله، وهذا من أبرز الأدلة على أن صاحب هذه الصفة غير متصف بالعقل؛ إذ لو كان له عقل ما حذّر الناس من الشر ووقع فيه، والاستفهام في قوله عز وجل : {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ}، للتوبيخ والتقريع والإنكار، ومدار التوبيخ والإنكار والتقريع هو ما تدل عليه الجملة الثانية من هذه الجمل الثلاث، وهو نسيان أنفسهم من البر، فالجملة الأولى من الجمل الثلاث وهي: أتأمرون الناس بالبر ليست محل توبيخ؛ فإن أمر الناس بالبر من
أحسن ما يتقرب به العبد إلى الله عز وجل، والجملة الثالثة وهي قوله: {وأنتم تتلون الكتاب}، ليست محل تقريع وتوبيخ لذاتها؛ فإن تلاوة كتاب الله عز وجل من أفضل ما يتقرب به العبد إلى الله عز وجل كذلك.
فالتفريع والتوبيخ والإنكار منصب على أن يحرم الإنسان نفسه من البر في الوقت الذي يرشد فيه الناس إلى عمل البر، وفي الوقت الذي يقرأ فيه كتاب الله، وما به من الوعيد الشديد على أن يكون قول الإنسان مخالفًا لفعله؛ إذ أن ذلك من أشد ما يمقت الله عز وجل الناسَ عليه،
کما قال تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3].
والبر اسم جامع لجميع أنوعا الخير والطاعات، وهو يشمل البر في طاعة الله وطاعة رسله، كما يشمل البر في معاملة الأقارب، والبر في معاملة الأجانب.
وقد بين الله تبارك وتعالى أنواع البر في قوله عز وجل: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].
وکما ختم هذه الآية الكريمة بما يفيد أن ثمرة البر الصدق والتقوى؛ حتی حصر البر في التقوى في قوله عز وجل: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} [البقرة: 189]، وأشار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أن ملازمة الصدق تهدي إلى البر، وأن البر يهدي إلى الجنة، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما([1]) من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله قال: (إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صدّيقًا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذَابًا).
ومن أبرز سمات البررة: أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، كما قال الله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71].
وقوله عز وجل: {وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ}، أي: وتتركون أنفسكم فلا تحملونها على الخير، ولا تسلكون بها سبيل السلام والنجاة؛ حيث تأمرون الناس بما فيه مرضاة الله وطاعته وأنتم مقيمون على معصيته، سادرون في غيکم وضلالكم، وتكذيبكم لمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي تعلمون صفته من كتبكم، وتعرفونه کما تعرفون أبناءكم.
وقد بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مآل من یأمر بالمعروف ولا يفعله، وينهى عن المنكر وهو يفعله، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما([2]) من حديث أسامة بن زید -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (يؤتى بالرجل يوم القيامة، فيُلقى في النار؛ فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يا فلان مالك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهی عن المنكر وآتيه). وفي رواية لمسلم([3]) من حديث أسامة -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتابه، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه، فيقولون: يا فلان ما شأنك؟ أليس كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن الشر وآتيه).
ومعنی: تندلق؛ أي: تخرج سريعًا([4])، والأقتاب: الأمعاء([5]).
وما أحسن قول أبي الأسود الدؤلي -رحمه الله-:
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى *** کیما یصحّ به وأنت سقيم
لا تنه عن خُلقٍ وتأتي مثله *** عار عليك إذا فعلت عظيم
وابدأ بنفسك فانهها عن غيها *** فإذا انتهت عنه فأنت حکیم
فهناك يُقبل ما تقول ويهتدي *** بالقول منك وينفع التعليم([6]).
-
2024-06-25 توحيد الربوبية وضلال الكفار
-
2024-06-25 بداية دخول الشرك على البشرية
-
2024-06-25 بيان ضلال نظريات فرويد
التعليقات (0 تعليق) إضافة تعليق