نعمة الأمن

2020-01-12
نعمة الأمن
مقال من العدد الخامس من أعداد مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. يتحدث المقال عن نعمة الأمن والأمان والأسباب السالبة للأمن الجالبة للخوف.

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.. أما بعد:

فقد روى الترمذي وقال حسن غريب: من طريق سلمة بن عبيد الله بن محصن الخطمي عن أبيه وكانت له صحبة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا».

إن من أعظم نعم الله على عباده أن يصبح الإنسان آمنًا على نفسه مطمئناً على عرضه، لا يخاف ظلم ظالم ولا جور جائر، وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن من اجتمع له الأمن في وطنه والصحة في بدنه مع وجود قوت يومه فقد جمعت له الدنيا ولم يفته منها شيء، حيث يقول فيما جاء من الأثر: «من أصبح منكم في أمن في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا» أي اجتمعت لديه أسباب النعيم العاجل، ولم يفته من مسرات الحياة شيء. والأمن في البلاد مع الصحة في الأبدان نعمة يجب أن تشكر فإن من فاتته هذه النعمة لم يسعد من الحياة من شيء ولذلك جاء في الحكم: "نعمتان مجحودتان: الأمن في الأوطان والصحة في الأبدان".

وقد امتن الله تبارك وتعالى على أهل مكة في مواضع كثيرة في كتابه بنعمة الأمن ليلفت الناس إلى شكرها وينبههم إلى خطرها، وجعل ذلك آية من آياته وبرهانًا من براهین عظمته وقدرته وألوهيته وربوبيته حيث يقول: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:1-4] وكما قال عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت:67]. وكما قال عز وجل: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [القصص:57-58]. وقد أشار الله تبارك وتعالى إلى أسباب الأمن، وأن أساسها الإيمان بالله وعدم الظلم، ولذلك قال في قصة إبراهيم عليه السلام حينما هدده قومه بأن أصنامهم ستسلبه الأمين: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:81] ثم بين أصول الأمن وأعظم أسبابه فقال: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] فإن العبد إذا آمن بالله عز وجل والتجأ إليه وامتنع عن المظالم كان حريًا بوقاية الله من شرور أعدائه على حد قول الشاعر: 

وقاية الله أغنت عن مضاعفة *** من الدروع وعن عال من الأطم

وكما قال الشاعر:

وإذا العناية لاحظتك عيونها *** نم فالمخاوف كلهن أمـــان

وقد وعد الله تبارك وتعالى أهل الأديان والعمل الصالح أن يمكّن لهم في الأرض وأن يبدلهم من بعد خوفهم أمنًا وفي ذلك يقول عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور:56]. كما وعد الله تبارك وتعالى كل من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى بالحياة الطيبة والتي يكون الأمن من أبرز مظاهرها حيث يقول: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97].

وقد نبه إبراهيم عليه السلام إلى خطر نعمة الأمن في البلاد، فدعا الله تبارك وتعالى أن يجعل دار ولده إسماعيل آمنة، حيث يقول عز وجل في دعوته: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} [البقرة:126] وكما قال عز وجل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم:35].

وقد استجاب الله تبارك وتعالى دعاء إبراهيم عليه السلام، فجعل دار إسماعيل عليه السلام حرماً آمناً وجعل البيت الحرام مثابة للناس وأمنًا وفي ذلك يقول: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة:125]، ووصفت مكة بأنها البلد الأمين حيث يقول: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين:1-3]، ما أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن تطبيق شريعة الإسلام، والعمل بأحكامه وتحليل حلاله وتحريم حرامه مما يورث البلاد أمنًا، ويهبها استقراراً، فقد صح الخبر أن عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه لما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وكانت أخت عدي قد أوصته أن يلحق برسول الله صلي الله عليه وسلم، وقالت له: "أرى أن تلحق بمحمد فإن يكن نبيًا فالسابق إليه فضل، وإن يكن ملكاً فأنت أنت". فلما قدم عدي رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عدي، ما يمنعك من الدخول في الإسلام؟» ثم قال له: «والله ليتمن هذا الأمر حتى تسير الظعينة من صنعاء إلى الحيرة فلا تخاف من نفسها إلا الذئب»، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولقد بين الله تبارك وتعالى في محكم كتابه الأسباب السالبة للأمن الجالبة للخوف، فجعل منها محاربة دين الله وفي ذلك يقول: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:144].

كما هدد تبارك وتعالى من كفر بنعمة الله أن يبدله من بعد أمنه خوفًا، وأن يلبسه لباس الجوع، وفي ذلك يقول: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [النحل:112-114].

ولقد أشار نبي الله صالح صلى الله عليه وسلم إلى عظيم نعمة الأمن، وطلب من قومه أن يشكروا الله عز وجل عليها، وأنذرهم بأنها ستسلب منهم إن لم يعترفوا الله عز وجل بها، وفي ذلك يقول الله عز وجل حاكياً مقالة نبي الله صالح صلى الله عليه وسلم لقومه: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآَيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:146-159]. ولقد ضرب الله تبارك وتعالى مثلاً كذلك بلاد سبأ، إذ كانوا يعيشون آمنين في بلاد لهم فيها آية جنتان عن يمين وشمال، فلما أعرضوا عن دين الله مزقهم كل ممزق وجعلهم أحاديث وفي ذلك يقول عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [سبأ:15-19].

إني تذكرت والذكرى مؤرقة *** مجداً تليداً بأيدينا أضعناه
أني اتجهت إلى الإسلام في بلد *** تجده كالطير مقصوصًا جناحاه

عبد القادر شيبة الحمد
المدرس بكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية بالمدينة

المصدر: مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة

التعليقات (0 تعليق) إضافة تعليق