من ثمرات التوحيد

2020-01-12
من ثمرات التوحيد
مقال من العدد الثامن عشر من مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيد المرسلين، وبعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله والله تبارك وتعالى يقول: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] وقد روى الإمام أحمد رضي الله عنه من طريق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "لما نزلت: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: "يا رسول الله: فأينا لا يظلم نفسه؟" فقال صلى الله عليه وسلم: «إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم. إنما هو الشرك»، وفي رواية للبخاري من طريق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}، قال الصحابة: "وأينا لم يظلم نفسه" فنزلت: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13].

أيها القارئ الكريم:
لإخلاص العبادة لله، وإفراده تبارك وتعالى بالتوحيد مزايا لا تحصى وثمرات لا تستقصى، منها ما يصلح باطن العبد ومنها ما يصلح ظاهره، ومنها ما يصلح له الدنيا ومنها ما يصلح له الآخرة، ولقد أشار الله تبارك وتعالى إلى أن شجرة التوحيد أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، فمهما خطر على بال العبد من عظيم مزاياها وجميل ثمارها فهي في الحقيقة فوق ذلك وفي ذلك يقول الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم:24-25]، فمن ثمرات التوحيد الأمن والاهتداء، وقد بشر الله المؤمنين بذلك إذ يقول: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]، والأمن المشار إليه في الآية الكريمة يشمل في الحقيقة أمن الدنيا وأمن الآخرة، إذ أن من أخلص دينه لله يفيض الله تبارك وتعالى عليه نعمة الرضى بقضائه، ويطمئن قلبه عند نزول الحوادث، ويثبت فؤاده عند حلول الكوارث، فلا تزلزله زلازل المرجفين على حد قوله تبارك وتعالى في وصف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:173-175].

ومن أنواع الأمن الذي يمتع الله به أهل التوحيد أن يطمئن قلوبهم عند الموت على أولادهم وأحبابهم، فلا يجزعهم فراق الأحبة بل تتنزل عليهم الملائكة عند الموت يبشرونهم بلقاء الله ونعيم الجنان ويطمئنونهم على ما خلفوا وراءهم، وفي ذلك يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30-32].

ومن أنواع الأمن الذي يمنحه الله تبارك وتعالى أهل التوحيد أن يطمئن قلوبهم عند الفزع الأكبر يوم القيامة، وفي ذلك يقول الله تبارك وتعالى متهددًا المشركين: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آَلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:98-103].

أما الأمن في الدنيا من عقوبة الله في الآخرة فليس من سيما أهل الإيمان، بل هو من أبرز علامات أهل الكفر الذين أمنوا مكر الله بأعدائه وعقوبته لمن خالف أمره، إذ أن الكفار لا يخشون عذاب الله ولا يخافون من عقوبته، ولذلك يستعجلون الساعة استهزاء بها وفي ذلك يقول الله تبارك وتعالى واصفا حالهم: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16] وقال: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} [الشورى:17]، ثم قال: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} [الشورى:18].

أما أهل الإيمان فإنهم يخافون مقامهم بين يدي الجبار، ولذلك يمتنعون عن معاصيه ويبتعدون عن أسباب غضبه، و قد اقتضت حكمة الله تبارك وتعالى أن من أمن عقوبة الله وهو في دار الدنيا أخافه الله في الآخرة، ومن خاف عقوبة الله في دار الدنيا آمنه الله في الآخرة وأورثه الجنة دار النعيم المقيم، فلا يجتمع على العبد خوفان ولا يجتمع له أمنان، وإلى ذلك يشير الله تبارك وتعالى إذ يقول: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [الشورى:22]. كما قال تبارك وتعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] وكما قال: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40-41]. وكما قال: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99]، ولذلك أثر عن الصديق رضي الله عنه أنه قال: "لا آمن مكر ربي ولو كانت إحدى رجلي في الجنة".

ومن ثمرات التوحيد الهداية والتوفيق وسلوك صراط الله المستقيم، فكما بشر الله تبارك وتعالى أهل التوحيد بالأمن بشرهم كذلك بأنهم مهتدون، وهذا الاهتداء يشمل تسديد الله لهم وحمايتهم من كيد الشيطان، فلا يتسلط عليهم ولا يتمكن من إغوائهم بل يريهم الله تبارك وتعالى الحق حقًا ويرزقهم اتباعه، ويريهم الباطل باطلاً ويرزقهم اجتنابه، وهذه نعمة عظيمة ومنة جسيمة فالسعيد من هداه الله للخير ووفقه إليه وحمله عليه، والشقي من خذله الله فلم يعينه ولم يسدده فتراه يتخبط في سلوكه يرى الباطل حقاً ويرى الحق باطلاً.

يقضي على المرء في أيام محنته *** حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسن

ومن حرم التوفيق ضل عن سواء الطريق:

إذا كان عون الله للعبد مسعفا *** تأتي له من كل شيء مراده
وإن لم يكن عون من الله للفتى *** فأول ما يقضي عليه اجتهاده

ومن ثمرات التوحيد مغفرة الخطايا وتكفير السيئات، فقد وعد الله تبارك وتعالى أهل التوحيد الخالص بحط خطاياهم ومغفرة ذنوبهم والتجاوز عن سيئاتهم، وأنهم لو جاؤوه يوم القيامة بملء الأرض من الخطايا وقد لقوه من غير شرك وماتوا على التوحيد، فإنه تبارك وتعالى يقابلهم بالمغفرة الواسعة والرحمة الشاملة. فقد روى الترمذي بسند حسن من طريق أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله تعالى: "يا ابن آدم: إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم: لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم: لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة»، وفي رواية مسلم من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه في الحديث القدسي: «ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئاً لقيته بقرابها مغفرة».

المصدر: مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة

التعليقات (0 تعليق) إضافة تعليق