الإعجاز التشريعي في آية الدين

2020-06-28
هذه أطول آية في كتاب الله، وتسمى آية الدين، وقال ابن جریر -رحمه الله-: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: ثني سعيد بن المسيب، أنه بلغه «أن أحدث القرآن، بالعرش آية الدين»( ). ویکاد أهل العلم يطبقون على الاحتجاج بمراسيل سعيد بن المسيب؛ لأنها فتشت فوجدت كلها مسانید قد رواها عن الصحابة رضي الله عنهم.

الإعجاز التشريعي في آية الدين

قال تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282].

هذه أطول آية في كتاب الله، وتسمى آية الدين، وقال ابن جریر -رحمه الله-: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: ثني سعيد بن المسيب، أنه بلغه «أن أحدث القرآن، بالعرش آية الدين»([1]). ویکاد أهل العلم يطبقون على الاحتجاج بمراسيل سعيد بن المسيب؛ لأنها فتشت فوجدت كلها مسانید قد رواها عن الصحابة رضي الله عنهم.

وقد وضعت هذه الآية الكريمة قواعد توثيق المعاملات، وأسباب صيانة الحقوق، وحفظ الأموال التي جعلها الله تبارك وتعالى قياما للناس، وبضبط هذه القواعد يُقضى على كثير من المنازعات التي تشتت شمل الناس.

ولما كانت الآيات السابقة قد حذرت أشد التحذير من تعاطي الربا، فقد أذن الله تبارك وتعالى في السَّلَم بهذه الآية الكريمة، والسلم هو بيع موصوف في الذمة إلى أجل ببدل يُعطى عاجلا. وقد عوض الله تبارك المسلمين عن الربا بالسلم واستثناه من قاعدة الربا، وهو يجمع ما قد يكون في الربا من نفع مع كثرة خير السلم وبركته ومنافعه، فإن الإنسان إذا كان لديه مال فبدل أن يتعاطى فيه بالربا فقد أذن الله له أن يشتري به قمحًا أو شعيرا أو أرزا أو تمرا أو غير ذلك من إنسان محتاج للنقد إلى أجل معلوم، فيحصل للمحتاج ما يريده من النقد بما يدفعه للمشتري عند حلول الأجل، فيستفيد البائع والمشتري جميعا ولا يلحق أحدا منها غبن ولا ظلم.

وقد لوحظ أن الله تبارك وتعالى ما حرم لذة ولا منفعة إلا وقد وضع للمسلمين من ما يبيح للمسلمين مثل هذه اللذات والمنافع الخالية من الأوضار والأضرار، فإنه عندما حرم الربا أباح السلم، وعندما حرم الزنا شرع الزواج، وقد أغلق الإسلام جميع الأبواب التي تؤدي إلى أكل أموال الناس بالباطل؛ فحرّم اكتساب المال من طريق الربا أو الرشوة أو التزوير أو الغصب أو

الخداع أو الغرر أو تلقي الركبان أو المزابنة أو بيع الثمار قبل بدو صلاحها، ووضع قواعد الأموال الربوية كما ذكرت قريبا، كما أنه شرع للمسلمين من طرق اكتساب الأموال واستثمارها ما يغني ويكفي ويشفي، ويسد حاجة الناس على اختلاف أحوالهم وطبائعهم ومعارفهم وقدراتهم.

 وقد أوضحت الشريعة الإسلامية أنه لا ينعقد البيع إلا إذا كان عن تراض، وأن يكون العاقد جائز التصرف، وأن يكون المبيع مالًا يصح الانتفاع به، من غير ضرورة، وأن يكون المبيع مملوكًا للبائع أو مأذونًا له في بيعه، وأن يكون مقدورًا على تسليمه، وأن يكون معلوماً برؤية أو صفة تحصل بها معرفته، وأن يكون الثمن معلوما.

ورخصت الشريعة الإسلامية في أنواع من المعاملات توسعة على المسلمين ودفعا للأذى والضرر عنهم وسدا لحاجتهم، فاستثنت بيع العرايا لما حرمت الربا والمزابنة، وشرعت كذلك نظام السلم واستثنته من قاعدة منع بيع الإنسان ما ليس عنده، کما شرعت المضاربة وألوانا من الشركات وفيها وفي السلم أبواب واسعة لاستثمار الأموال أحسن استثمار دون مضرة تلحق أحد الطرفين،

فلم تجعل الفائدة لأحد المتعاقدين والخسارة على أحدهما كالربا، وبمقارنة المعاملات المشروعة بالمعاملات المحرمة يتضح أن هذا التشريع هو تشريع العليم الحكيم الخبير، ولم تحرم الشريعة شيئا إلا لدفع ما فيه من الأذى والمفاسد، ولم تبح شيئا إلا وفيه مالا يحصى من المنافع والفوائد، وذلك كله في إطار قاعدة شرعية مطردة وهي: أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وأنه لا ضرر ولا ضرار.

والمتمعن في آية الدين هذه وما اشتملت عليه من القواعد والفوائد يحسُّ أنه أمام نوع من الإعجاز التشريعي الذي أنزله الله تعالى على النبي الأمي معلم البشرية منهج سعادتها محمد ﷺ، وقد ذكر القرطبي -رحمه الله- في هذه الآية اثنتين وخمسين مسألة، وذكر أنها تتناول جميع المداينات بالإجماع([2]).

وقوله تبارك وتعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ}، أي: إذا تعاملتم وتبايعتم بدین، أو اشتريتم به إلى وقت معلوم وقّتموه بينكم من سَلَم أو غيره مما فيه أحد العوضين مؤجلًا؛ فاکتبوا الدين الذي تداينتموه إلى أجل واجعلوا به صكّاً لحفظ حقوقکم وقطع منازعاتكم. وحقيقة الدين عبارة عن كل معاملة يكون أحد العوضين فيها نقدًا والآخر في الذمة نسيئة، والعرب يطلقون على الحاضر النقد والعين وعلى الغائب الدين، وفي ذلك يقول الشاعر عندما رأى علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- لما قال له جماعة من السبئية: أنت الله، فأمر

-رضي الله عنه- مولاه قنبرا فحفر حفرتين وملاهما نارا وألقى فيهما من تحقق لعلي -رضي الله عنه- أنه على هذا المذهب الخبيث، فقال الشاعر:

لترم بي الحوادث حيث شاءت ** إذا لم ترم بي في الحفرتين

إذا ما أوقدوا حطبا ونارا ** فذاك الموت نقدًا غیر دین

ولا شك أن كتابة الدين ليست شرطًا في صحة عقد المداينة، كما أن الإشهاد على عقد البيع ليس شرطًا في صحة عقد البيع، وقد روى البخاري عن رسول الله ﷺ "أنه ذكر رجلا من بني إسرائيل، سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار، فقال: ائتني بالشهداء أشهدهم، فقال: كفى بالله شهيدا، قال: فأتني بالكفيل، قال: كفى بالله كفيلا، قال: صدقت، فدفعها إليه إلى أجل مسمى، فخرج في البحر فقضى حاجته، ثم التمس مركبا يركبها يقدم عليه للأجل الذي أجله، فلم يجد مركبا، فأخذ خشبة فنقرها، فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه، ثم زجج موضعها، ثم أتى بها إلى البحر، فقال: اللهم إنك تعلم أني كنت تسلفت فلانا ألف دينار، فسألني كفيلا، فقلت: كفى بالله كفيلا، فرضي بك، وسألني شهيدا، فقلت: كفى بالله شهيدا، فرضي بك، وأني جهدت أن أجد مركبا أبعث إليه الذي له فلم أقدر، وإني أستودعكها، فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه، ثم انصرف وهو في ذلك يلتمس مركبا يخرج إلى بلده، فخرج الرجل الذي كان أسلفه، ينظر لعل مركبا قد جاء بماله، فإذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطبا، فلما نشرها وجد المال والصحيفة، ثم قدم الذي كان أسلفه، فأتى بالألف دينار، فقال: والله ما زلت جاهدا في طلب مركب لآتيك بمالك، فما وجدت مركبا قبل الذي أتيت فيه، قال: هل كنت بعثت إلي بشيء؟ قال: أخبرك أني لم أجد مركبا قبل الذي جئت فيه، قال: فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة، فانصرف بالألف الدينار راشدا"([3]).

وقوله عز وجل: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ}، أي وليحرر الصك بالدين كاتب فقیه مستقيم يتحرى الحق ويخاف الله عز وجل؛ فلا يكتب إلا ما يتفق عليه الطرفان لا يزيد شيئا ولا ينقص شيئا، ولا يكتفي بكلام أحدهما، ويحرر العبارة تحريرا يدفع اللبس، ويجتنب الكلمات الموهمة لأكثر من معنى.

وقوله تبارك وتعالى: {وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا}، أي: ولا يمتنع من يعرف الكتابة عن الكتابة؛ لأنه تعاون على البر والتقوى، وليحرص على أن تكون كتابته على ما يرضي الله عز وجل الذي تفضل عليه وعلمه الكتابة، فليلتزم هو بتحرير العبارة القاطعة للنزاع فقط دون أن يكون له هوى لأحد الطرفين المتعاقدين، وعليه أن يسمع ما يمليه عليه الذي عليه الدين المطالب بالحق؛ لأنه المقر به الملتزم له، فلو قال له الذي له الحق: لي كذا وكذا، لا يكتب كلامه حتى يقر به الذي عليه الحق: لي كذا وكذا، لا يكتب كلامه حتى يقر به الذي عليه الحق؛ لأن الإقرار حجة قاصرة على المقر وحده، وعلى هذا المملي أن يخاف الله عز جل، وأن لا يأتي بعبارة موهمة قد تجلب النزاع عند المطالبة، فالواجب كتابة الدين بجميع صفاته المبينة له المعربة عنه المعرَفة للحاكم بحقيقة الحال إذا قدّر للمتداينين أن يترافعا إليه. والتنصيص على أن يكون الكاتب غير الطرفين المتدينين لإزالة التهمة، قال القرطبي: "ولم يقل أحدكم، لأنه لما كان الذي له الدين يتهم في الكتابة الذي عليه الدين وكذلك بالعكس شرع الله سبحانه كاتبا غيرهما يكتب بالعدل لا يكون في قلبه ولا قلمه موادة لأحدهما على الآخر"([4]).

والإملال والإملاء أن يقول القائل كلامًا فيكتبه الكاتب عنه

والبخس: النقص والظلم والمكس، وهذا غاية في التوثيق وإقامة العدل.

فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا

وقوله تبارك وتعالى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ}، أي: فإن كان المدين قادرًا على الإملاء لكنه لا يقبل إملاؤه لكونه سفيها أو ضعيفا، أو كان غير قادر على الإملاء لِخَرَسٍ أو لِعِيٍّ أو لجهل باللغة فليملل وليه بالعدل، والسفيه هو المبذّر المتلف لماله المحجور عليه، والضعيف هو الصغير والشيخ الهرم والمجنون، فليتول وليه الإملاء على الكاتب بدلا من الذي عليه الدين، والمراد بوليه من يلي أمره ويقوم مقامه من قيم أو وكيل أو مترجم من ينصبهم الحاكم الشرعي ويقيمهم مقامه في التصرف في ماله عنه.

وقد أجمع العلماء على أنّ تصرّف السفيه المحجور عليه دون إذن وليه فاسد مفسوخ أبدًا، لا يوجب حكمًا ولا يؤثر شيئًا كما قال القرطبي رحمه الله([5]). أما إذا كان الرجل يُخدع في البيوع فإنه يصح عقده ويصح إملاؤه إذا اشترط عند العقد أنه لا خِلابة؛ فإنه يكون له الخيار إذا ثبت الغبن، فقد روى البخاري([6]) ومسلم([7]) في صحيحهما من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: ذكر رجلٌ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه يُخدع في البيوع؛ فقال: «إذا بايعت فقل: لا خلابة»، وقد أورده البخاري في باب ما يكره من الخداع في البيع([8]) من طريق عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- به. وفي لفظ لمسلم: أنه كان يقول: لا خيابة، فيقلب اللام ياء. قال الحافظ في الفتح: "وكأنه كان لا يفصح باللام للثغة لسانه ومع ذلك لم يتغير الحكم في حقه عند أحد من الصحابة الذين كانوا يشهدون له بأن النبي صلى الله عليه وسلم جعله بالخيار"([9])، وهذا الرجل هو حبان بن منقذ بن عمرو الأنصاري -رضي الله عنه- کما ذکر ابن الجارود في المنتقى([10]).

ومعنی: يُخدع، أي يُغر ويُغبن، ومعنى: لا خلابة، أي لا خديعة.

وقوله تبارك وتعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى}، أي: واستحضروا عند تحرير صك الدّین ذکرین بالغين عاقلين من المسلمين ليتحمّلا الشهادة يكونان معروفين بالضبط والقدرة على ذلك، ولم يقل: شاهدين، وقال: شهیدین؛ للإشعار بأنهما متمكنان من تحمل الشهادة قادران على أدائها.

وقوله عز وجل: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ}، أي: فإن لم تحضروا شاهدين من الرجال فليشهد رجل وامرأتان، فجعلت الشريعة الإسلامية شهادة المرأتين بشهادة رجل واحد، وذلك لأن الله تبارك وتعالى جعل فطرة المرأة وطبيعتها دون جبّلة الرجل وطبيعته وخلقته، فكان

الرجل بما جبله الله عز وجل أقوى جسمًا وأكبر دماغًا وأوسع عقلًا وأقوى عظمًا؛ استعدادا لشئون الحياة، وأقدر على تحمل مختلف الأعمال، وجعل غُدد المرأة أكثر رطوبة وأضعف تحملا، واختص النساء بالحيض والحمل والرضاع وحضانة الأطفال، ولذلك جعل الله تبارك وتعالى الرجال قوامین النساء، وقد روى البخاري من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-

قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أضحى أو فطر إلى المصلى، فمر على النساء، فقال: «يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكن أكثر أهل النار» فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال: «تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن»، قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: «أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل» قلن: بلى، قال: «فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم» قلن: بلى، قال: «فذلك من نقصان دينها»([11]).

وأخرج مسلم من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «يا معشر النساء، تصدقن وأكثرن الاستغفار، فإني رأيتكن أكثر أهل النار» فقالت امرأة منهن جزلة: وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار؟ قال: «تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، وما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن» قالت: يا رسول الله، وما نقصان العقل والدين؟ قال: «أما نقصان العقل: فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل فهذا نقصان العقل، وتمكث الليالي ما تصلي، وتفطر في رمضان فهذا نقصان الدين»([12]).

وقوله عز وجل: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}، الظاهر من الأساليب البلاغية الملاحظة في القرآن الكريم أن هذا القيد يشمل جميع الشهود من الرجال والنساء في الحقوق وغيرها، وذلك أنه قد يذكر أشياء فيقيد بعضها بقيد ويترك تقیید الآخر فلا يقيده بهذا القيد مع أنه مراد تقييده به، فيكتفي بالمذكور عن المحذوف، ومثال ذلك: قول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 55-56]، فقد قيد العشرين بأنهم صابرون ولم يقيد بها المائة في قوله عزوجل: {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا}، مع أن هذا القيد مراد، وقيد المائة بقيد الصبر في قوله عز وجل: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}، ولم يقيد بها الألف في قوله عز وجل: {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ}، مع أن هذا القيد مراد مع الألف أيضا، وكذلك قيّد الألف المغلوب بقيد الكفر في قوله: {يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا}، ولم يقيد بهذا القيد المائتين المغلوبتين في قوله عز وجل: {يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}، وكذلك الألفين المغلوبين في قوله عز وجل: {يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} مع أن قيد الكفر مراد فيهما، وقيد قوله عز وجل: {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ}، بقوله تعالى: {بِإِذْنِ اللَّهِ}، مع أن هذا القيد مراد في الجميع، وهذا من الأساليب البلاغية التي اعتبرت في إعجاز القرآن وهو معروف في البلاغة باسم الاحتباك.

وقوله تبارك وتعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى}، أي أن تنسی إحدى الشاهدتين وتتردّد في استذكار الشهادة فتذكِّرُها الشاهدة الثانية، وهذا بسبب الرطوبة التي تغلب على تكوين غُدد النساء لتكون ألطف في معاملة أطفالها ومن تحت يدها من خدم، ولتدخل على زوجها الأُنس لما قد يلقاه من متاعب الحياة.

قال الكرخي: "من شأن العرب إذا كان للعلة علة قدموا ذكر علة العلة وجعلوا العلة معطوفة عليها بالفاء؛ لتحصل الدلالتان معا بعبارة واحدة كقولك: أعددت الخشبة أن يميل الجدار فأدعمه بها، فالإدعام علة في إعداد الخشبة والميل علة الإدعام، وإيضاحه: أنك لم تقصد بإعداد الخشبة ميل الحائط، وإنما المعنى: لأدعم بها إذا مال، فكذلك الآية، وهذا مما يعول فيه على المعنى ويهجر فيه جانب اللفظ، فلا يرد: کیف جعل {أن تضل} علة لاستشهاد المرأتين بدل رجل مع أن علته إنما هي للتذكير" اهـ

و قال القرطبي -رحمه الله-: " قال أبو عبيد: معنى تضل تنسى. والضلال عن الشهادة إنما هو نسيان جزء منها وذكر جزء، ويبقى المرء حيران بين ذلك ضالا. ومن نسي الشهادة جملة فليس يقال: ضل فيها" ([13]).

وقوله تبارك: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا}، أي: ولا يمتنع الشاهد عن أداء الشهادة إذا طلب لأدائها عند الحاكم، فالشاهد يمشي للحاکم کما قيل في أمثال العرب: في بيته يُؤتى الحكم. ولا شك أن صاحب الحق إن لم یکن تمكينه من حقه إلا بهذا الشاهد؛ فإن أداء الشهادة يكون واجبا، ويأثم الشاهد إن لم يشهد، ولو علم الشاهد بحق ولم يذكره صاحب الحق ولم يكن له غيره؛ فإن الشاهد إذا حضر وأقام الشهادة لله كان خير الشهداء، فقد روی مسلم في صحيحه([14]) من حديث زيد بن خالد الجهني -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : «ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها».

وقوله عز وجل: {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ}، أي: ولا تملوا أن تكتبوا صك الدين على أي حال كان من القلة أو الكثرة وتحددوا فيه الأجل المسمى، وهذا الإرشاد والتوجيه يشعر بخطورة الدين ووجوب صيانة الأموال التي جعلها الله للناس قياما، وقد حذرت الشريعة الإسلامية من عدم تسديد الدين أشد التحذير، فقد روى مسلم([15])  من حديث أبي قتادة -رضي الله عنه- قال رجل: يا رسول الله، أرأيت إن قتلت في سبيل الله، تكفر عني خطاياي؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم، إن قتلت في سبيل الله، وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر»، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف قلت؟» قال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم، وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر، إلا الدين، فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك».

 

كما روى مسلم([16]) من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال «يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين».

وقد بشّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أخذ أموال الناس وهو عازم على قضائها بأن ييسر الله عز وجل عليه سدادها، فقد البخاري([17]) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: «من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله».

وقوله تبارك وتعالى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا}، أي: هذا الذي أمرناكم به من كتابة صك بالدين وتحرير أجله والإشهاد عليه وأن لا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله؛ هو أعدل عند الله عز وجل وأصح وأحفظ وأضبط للشهادة وأقرب ألا تشكوا في جنس الدين وقدره وأجله وشهوده، يقال: أقسط الحاكم فهو يقسط إقساطا إذا

عدل في حكمه وأصاب الحق فيه، ويقال قسط فلان: إذا جار وظلم وتعدی، وقد استعمل القرآن العظيم أقسط بمعنی عدل، وقسط بمعنی جار؛ حيث يقول عز وجل: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]، وكما قال عز وجل: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [المائدة: 42]، وقال عز وجل: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن: 14-15]،

ولفظ القسط في اللغة من الأضداد يطلق على معنى العدل وعلى معنی الجور، ومصدر قسط

بمعنی جار القسوط، يقال: قسط يقسط قسوطًا إذا جار، قال العلامة ابن منظور في لسان العرب: "وأقسط في حكمه: عدل، فهو مقسط، وفي التنزيل العزيز: {وأقسطوا إن الله يحب المقسطين}، والقسط: الجور، والقسوط: الجور والعدول عن الحق؛ وأنشد:

يشفي من الضغن قسوط القاسط

قال: هو من قسط يقسط قسوطا"([18]).

وقوله تعالى: {وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ}، أي: أصوب لها، قال ابن جرير -رحمه الله-: " وأصله من قول القائل: أقمته من عوجه، إذا سويته فاستوى. وإنما كان الكتاب أعدل عند الله وأصوب لشهادة الشهود على ما فيه؛ لأنه يحوي الألفاظ التي أقر بها البائع والمشتري ورب الدين والمستدين على نفسه، فلا يقع بين الشهود اختلاف في ألفاظهم بشهادتهم لاجتماع شهادتهم على ما حواه الكتاب، وإذا اجتمعت شهادتهم على ذلك، كان فصل الحكم بينهم أبين لمن احتكم إليه من الحكام، مع غير ذلك من الأسباب، وهو أعدل عند الله؛ لأنه قد أمر به، واتباع أمر الله لا شك أنه عند الله أقسط وأعدل من تركه والانحراف عنه"([19]).

وقوله تبارك وتعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا}، بعد أن أكد الله تبارك وتعالى على المسلمين إذا تداينوا بدين أن يكتبوه وأن يشهدوا

على صك الدين، وألا يسأموا أن يكتبوه صغيرًا أو كبيرًا إلى أجله؛ رخص هنا للباعة والمشترين المتعاملين بالعوضين الحاضرين يدا بيد في ترك كتابة صك بمعاملتهم؛ لأن البائع يقبض الثمن والمشتري يقبض السلعة قبل المفارقة، فلا حاجة لهم في كتابة صك بهذه المبايعة الحاضرة التي من شأنها أن تدار بين التجار، حيث يقول عز وجل: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} وقد قرأ عاصم: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً}، بنصب تجارة وبنصب حاضرة، على أن اسم كان ضمير مستتر يعود على المعاملة المفهومة من السياق، وتجارة خبرها، وحاضرة صفة لتجارة، وقرأ بقية السبعة([20]) برفع تجارة على أن كان تامة بمعنى: وقع وحدث، أي: إلا أن تقع تجارة حاضرة، وإلى هذا ذهب الأخفش([21])، واعتبرها بعض أهل العلم كان الناقصة وتجارة اسمها وحاضرة صفة تجارة، والخبر جملة تديرونها بینکم؛ فهي في محل نصب خبر كان الناقصة.

وفي قوله عز وجل: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا}، يشعر بوجود الحرج والجناح إذا كانت المعاملة فيها دين إلى أجل مسمى ولم تكتب.

وقوله عز وجل: {تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ}، قال القرطبي: " يقتضي التقابض والبينونة بالمقبوض، ولما كانت الرباع والأرض وكثير من الحيوان لا يقبل البينونة ولا يغاب عنه حسن الكتب فيما ولحقت في ذلك مبايعة الدين، فكان الكتاب توثقا لما عسى أن يطرأ من اختلاف الأحوال وتغير القلوب، فأما إذا تفاصلا في المعاملة وتقابضا وبان كل واحد منهما بما ابتاعه من صاحبه، فيقل في العادة خوف التنازع إلا بأسباب غامضة، ونبه الشرع على هذه المصالح في حالتي النسيئة والنقد وما يغاب عليه وما لا يغاب، بالكتاب والشهادة والرهن"([22]).

وقوله عز وجل: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}، يكاد أهل العلم يطبقون على أن هذا الأمر أمر إرشاد وهو يختلف باختلاف الأحوال والسلع فيزداد تأكده کلا عظم شأن السلعة، والمسلمون مع اختلاف أعصارهم وأمصارهم يتبايعون في الأشياء التافهة دون إشهاد، فمن يذهب ليشتري خبزة لا يحتاج إلى شاهدين يشهدان على البيع، وقد ثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- باع وكتب، وباع ولم يشهد، فقد روى البخاري في صحيحه  من حديث العداء بن خالد قال: كتب لي النبي صلى الله عليه وسلم: «هذا ما اشترى محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من العداء بن خالد، بيع المسلم من المسلم، لا داء ولا خبثة، ولا غائلة»([23]).

وقال أبو داود في سننه([24]): حدَّثنا محمدُ بنُ يحيى بن فارسٍ، أن الحكم بن نافع أبا اليمانِ حدَّثهم، قال: أخبرنا شعيب، عن الزهريِّ، عن عُمارةَ بن خُزيمة أن عمه حدَّثه، وهو مِنْ أصحاب النبيِّ -صلَّى الله عليه وسلم-: أن النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلم - ابتاعَ فرساً من أعرابي، فاستتبعه النبيُّ -صلَّى الله عليه وسلم- ليقضِيَه ثَمَنَ فرسه، فأسرعَ النبي - صلَّى الله عليه وسلم - المَشيَ وأبطأ الأعرابيُّ، فطَفِقَ رجالٌ يعترِضُون الأعرابىَّ فيساومونه بالفرسِ، ولا يشعرون أن النبيَّ -صلَّى الله عليه وسلم- ابتاعَه، فنادى الأعرابيُّ رسولَ الله -صلَّى الله عليه وسلم- فقال إن كنت مبتاعاً هذا الفرسَ وإلا بِعتُه، فقام النبي - صلَّى الله عليه وسلم - حين سمع نداءَ الأعرابيِّ فقال: "أو ليسَ قد ابْتَعْتُه منك؟ فقال الأعرابيُّ: لا، والله ما بِعتُكَهُ، فقال النبيَّ -صلَّى الله عليه وسلم-: "بلى قد ابتعتُه منك"َ، فطفِقَ الأعرابيُّ يقول: هَلمَّ شهيداً، فقال خزيمةُ بن ثابت: أنا أشهدُ أنك قد بايَعْتَه، فأقبل النبيُّ -صلَّى الله عليه وسلم- على خزيمة فقال: "بم تشهد؟ " فقال: بتَصديقِكَ يا رسولَ الله، فجعل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - شهادةَ خُزيمة بشهادةِ رجُليَن".

وقد روى البخاري في صحيحه([25]) من طريق خارجة بن زيد، أن زيد بن ثابت رضي الله عنه، قال: «نسخت الصحف في المصاحف، ففقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم [ص:20] يقرأ بها، فلم أجدها إلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته شهادة رجلين».

وقوله تبارك وتعالى: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ}، يحتمل أن يكون الفعل يُضار مبنيا للفاعل؛ فيكون المعنى: ولا يجوز للكاتب أن يلحق ضررا بأحد طرفي العقد في كتابته بالنقص أو بالزيادة، ولا يجوز للشاهد أن يلحق ضررًا بأحد المتبايعين في شهادته بالزيادة أو النقص فيها، ويحتمل أن یکون يُضار مبنيا للمفعول فيكون المعنى: ولا يجوز للمتبايعين أو غيرهما أن يلحق ضررا بالكاتب لكتابته أو للشاهد بسبب شهادته، فيكون معنی ولا يضاره على الأول: ولا يضارِر، وعلى الثاني: ولا يضارَر.

والله تبارك وتعالى كما نهى ووصى بتحريم إلحاق الضرر بأحد من المسلمين عامة في قوله تبارك وتعالى: {غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 12]، وقرن عز وجل الضرار بأكبر الذنوب حيث قال: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة: 107]، فقد حذّر هنا من إلحاق الضرر بالكاتب أو بالشاهد سواء كان إضراره بالقول أو بالفعل، وقد روى أبو داود([26]) والترمذي([27]) وحسنه من حديث أبي صرمة -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: «من ضار أضر الله به، ومن شاق شاق الله عليه»

وقوله تبارك وتعالى: {وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ}، أي: وإن خالفتم ما أُمرتم به، أو فعلتم ما نُهيثم عنه فإنه فسق کائن بکم، أي لازم لكم تتصفون به، ومن كان به خير لنفسه لا يفعل ما يجعلها فاسقة بل يحرص كل الحرص على أن يكون من الصالحين، فلا تضروا الكاتب الذي كتب بالعدل، ولا تضروا الشاهد الذي شهد بالحق.

 وقوله عز وجل: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ}، أي: وكونوا خوف من ربكم واجعلوا لأنفسكم وقاية من عذابه بأن تأتمروا بما أمر وأن تنزجروا عما نهى عنه وزجر، والله تبارك وتعالى يتفضل عليكم بتعليمكم ما ينفعكم في دينكم ودنياكم، ويرسم لكم منهج سعادتكم، ويضع لكم فرقانًا تفرقون به بين الحق والباطل، والهدى والضلال، وقد قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29]، وكما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} [الحديد: 28].

وقوله عز وجل: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، يفيد أن ما يضعه لكم من منهج يكون أحسن المناهج وأوفاها وأنقاها وأكملها وأتمها؛ لأنه العليم بجميع أحوال الناس وميولهم وما ينفعهم ويسعدهم في دنياهم وآخرتهم([28]).

 

[1]-  تفسير الطبري 5/68.

[2]- ينظر: تفسير القرطبي 3/377.

[3]- أخرجه البخاري (2291 ) من حديث أبي هريرة.  

[4]- تفسير القرطبي 3/383.  

[5]- تفسير القرطبي 3/389.  

[6]- برقم (2117)

[7]- برقم (1533).

[8]- 3/64، برقم 1533.

[9]- فتح الباري 4/338.

[10]- برقم (567).

[11]- أخرجه البخاري (304)، ومسلم (79-80).

[12]- أخرجه مسلم 79.

[13]- تفسير القرطبي 3/397.

[14]- برقم (1719).

[15]- برقم (1885).

[16]- برقم (1886).

[17]- برقم (2387).

[18]- لسان العرب 7/378.

[19]- تفسير الطبري 5/104.

[20] - ينظر: النشر في القراءات العشر، لابن الجزري 2/237.

[21] - ينظر: معاني القرآن، للأخش 1/ 205.

[22]- تفسير القرطبي 3/402.

[23] - رواه البخاري معلقًا، ﷺ باب إذا بين البيعان ولم يكتما ونصحا، 3/58.

[24] - برقم (3607)، وأخرجه أيضًا: النسائي (4647).

[25] - برقم (2807).

[26] - برقم (3635).

[27] - برقم (1940).

[28] - تهذيب التفسير وتجريد التأويل 2/255-268.

التصنيفات

التعليقات (0 تعليق) إضافة تعليق