مفهوم الإكراه المنفي في قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}
بعد أن ذكر الله تبارك وتعالى اختلاف الناس بعد مجيء الحق وأن منهم من آمن ومنهم من كفر، وقد حض على مكافحة الكفر، حتى لا يعم الفساد في الأرض، وذكر آية الكرسي المشتملة على أصول أسمائه الحسنى وصفاته العُلى، الدالة على وجوب إخلاص العبادة لله وحده، قال هنا: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}، ولا نزاع عند أهل العلم أن من ارتد عن الإسلام بعد الدخول فيه، وأبى أن يرجع إلى الإسلام بعد أن يبين له بطلان ما
قد يكون عنده من شبه أنه يجب قتله؛ لما رواه البخاري في صحيحه([1]) من طريق عكرمة قال: أتي علي -رضي الله عنه- بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس، فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم، لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تعذبوا بعذاب الله» ولقتلتهم، لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من بدل دينه فاقتلوه».
وقد أجمع أصحاب رسول الله ﷺ على قتال المرتدين ومانعي الزكاة، وعلى رأس أصحاب رسول الله ﷺ يومئذ شيخ الأمة الإسلامية وأفضلها بعد رسول الله ﷺ أبو بكر الصديق، ومعه عمر الفاروق رضي الله عن أصحاب رسول الله ﷺ أجمعين، وقال أبو بكر -رضي الله عنه-: والله "لو منعوني عناقا كانوا يؤدونه على عهد رسول الله ﷺ لقاتلتهم عليه"، فقد روى البخاري([2]) ومسلم([3]) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: «لما توفي النبي -صلى الله عليه وسلم- واستخلف أبو بكر، وكفر من كفر من العرب، قال عمر: يا أبا بكر، كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله، فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله).
قال أبو بكر: «والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم على منعها»، قال عمر: «فوالله ما هو إلا أن رأيت أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق».
وقد أشار الله تبارك وتعالى إلى دعوة أبي بكر لقتال المرتدين في محکم كتابه، حيث يقول عز وجل: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 16]، وفي هذه الآية الكريمة شهادة من الله سجلها في كتابه الكريم بصحة إمامة أبي بكر وخلافته رضي الله عنه؛ لأن هذه الآية نزلت في معاتبة المخلفين عن غزوة تبوك ولم يقاتل رسول الله ﷺ بعد غزوة تبوك أحدا، ولم يدع رسول الله ﷺ إلى قوم ليس لهم إلا الإسلام أو السيف بعد نزول هذه الآية قطعا، فكانت هذه الآية شاهد صدق على صحة خلافة الصديق وشرعية دعوته لقتال المرتدين ومانعي الزكاة.
وقد صار هذا الحكم معلومًا من دين الإسلام بالضرورة، وقد روى البخاري([4]) ومسلم([5]) في صحيحيهما من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: « أقبلت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ومعي رجلان من الأشعريين، أحدهما عن يميني والآخر عن يساري، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستاك، فكلاهما سأل، فقال: يا أبا موسى، أو: يا عبد الله بن قيس، قال: قلت: والذي بعثك بالحق ما أطلعاني على ما في أنفسهما، وما شعرت أنهما يطلبان العمل، فكأني أنظر إلى سواكه تحت شفته قلصت، فقال: لن، أو: لا نستعمل على عملنا من أراده، ولكن اذهب أنت يا أبا موسى، أو يا عبد الله بن قيس، إلى اليمن، ثم اتبعه معاذ بن جبل، فلما قدم عليه ألقى له وسادة، قال: انزل، وإذا رجل عنده موثق، قال: ما هذا؟ قال: كان يهوديًا فأسلم ثم تهود، قال: اجلس، قال: لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله، ثلاث مرات. فأمر به فقتل، ثم تذاكرا قيام الليل، فقال أحدهما: أما أنا فأقوم وأنام، وأرجو في نومتي ما أرجو في قومتي».
ولا يستطيع أحد أن ينكر مثل هذا الحكم في شريعة الإسلام لحفظ الدين وحماية الشريعة من التلاعب، وحفظ الدين من الكليات الخمس التي اتفق عليها جميع النبيين والمرسلين، على أن جميع الأنظمة الأرضية كالشيوعية ونحوها من المذاهب الباطلة لا يسمح لأحد ممن يُبتلى بالوقوع تحت سيطرة المتسلطين بها أن يلمزها أو أن يطعن عليها فضلا عن إعلان كفره بها، وهذا لا جدال فيه.
وقد أجمع المسلمون على أن من أدى الجزية عن يد وهو صاغر من أهل الكتاب وكذلك المجوس؛ فإنه يُقر على دينه من اليهودية أو النصرانية أو المجوسية ولا يُكره على الدخول في الإسلام، وفي ذلك يقول الله عز وجل في أهل الكتاب: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، وقد ألحق أصحاب رسول الله ﷺ المجوس بأهل الكتاب لأن لهم شبهة كتاب، وقد أُثر عن عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال في المجوس: «سنُّوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناکحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم"([6])، وإن كان هذا الأثر فيه بحث عند أهل العلم إلا أن الإجماع منعقد على العمل بحكمه، والإجماع حجة مستقلة لإثبات الأحكام.
وما دامت هذه القواعد والأصول التي ذكرتُ قد أجمع عليها المسلمون؛ کان قوله عز وجل: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، عامًا أريد به الخصوص وهم أهل الكتاب ومن في حكمهم؛ لأنهم لا يكرهون على دين الإسلام إن أدوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وما أُثر من سبب نزول هذه الآية الكريمة يؤيد ذلك؛ حيث كان أهل يثرب من الوثنيين يعتقدون أن دين اليهود من أهل الكتاب خير من دينهم، وكانت المرأة إذا كانت مِقْلاتًا أي لا يعيش لها ولد أو لا يعيش لها إلا ولد واحد؛ نذرت إن جاء بولد أن تهوّده ليعيش على اعتقادها، فلما جاء الإسلام وأيقنوا أن الدين الحق الذي قد نسخ الله به الأديان كلها؛ أراد آباء الأولاد الذين تهوّدوا أو تنصّروا من العرب أن يقهروهم على الدخول في دين الإسلام وترك اليهودية أو النصرانية؛ فنزلت هذه الآية.
قال ابن جرير -رحمه الله-: " حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: " كانت المرأة تكون مِقْلاتا، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: لا ندع أبناءنا، فأنزل الله تعالى ذكره: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} [البقرة: 256]" ([7]). قال في القاموس المحيط([8]): "والمِقْلاتُ: ناقَةٌ تَضَعُ واحِداً ثم لا تَحْمِلُ، وامرأةٌ لا يَعيشُ لها ولدٌ".
وقد حاول بعض الناس أن يجعلها دليلا على حرية الدين وأن للإنسان أن يدخل أي دين شاء ويخرج منه متى شاء، وقد ربطوا ذلك بقوله عز وجل: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف 29]، وبقوله عز وجل: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]، وهذا فهم عاطل باطل فاسد كاسد، يناقض القواعد المقررة المعلومة من دین الإسلام بالضرورة، وقد جهل هؤلاء أن الأمر في اللسان العربي قد يأتي للإباحة وللاستحباب وللإيجاب، کما يأتي للتهديد كقوله عز وجل: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]، وللتعجيز والإهانة كقوله عز وجل: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} [الإسراء: 50]، وقد يكون للصيرورة وللتسخير كقوله عز وجل: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65]، ومعنی: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}؛ أي قد اتضح الهدی من الضلال([9]).
-
2024-06-25 توحيد الربوبية وضلال الكفار
-
2024-06-25 بداية دخول الشرك على البشرية
-
2024-06-25 بيان ضلال نظريات فرويد
التعليقات (0 تعليق) إضافة تعليق