الشيوعية

2019-12-21
الشيوعية
مقال نشر في العدد الثالث للسنة الثانية من مجلة الجامعة الإسلامية للعلوم الشرعية والذي صدر في شهر المحرم لعام 1390 هـ. المقال يتحدث عن نشأة الشيوعية والمذهب الماركسي بالإضافة إلى أركان قيام المجتمع الشيوعي. كما يتطرق إلى الفروق بين الشيوعية والاشتراكية وموقف الإسلام من الاشتراكية.

أطلق العرب على المذهب الاقتصادي الذي تسير عليه روسيا ومن نحا نحوها (الشيوعية)، وهي في أصل اللسان العربي من قولهم سهم شائع إذا كان غير مقسوم. وهذه المادة استعملت في اللسان العربي في عدة أحوال كذلك، وكلها تدور على الذيوع والانتشار فمن ذلك قول العرب (الشاع) للمنتشر من بول الناقة.

(تاريخ)
مزدك:
عرف العالم القديم الشيوعية في صور شتى، ومن ذلك ما أثر عن (مزدك) الفارسي الذي ظهر في عهد الملك (قباد) ملك فارس، وكان هذا الملك ضعيفًا مهينًا فسدت في عهده الرعية فزعم مزدك أنه نبي، وأخذ ينهى الناس عن المباغضة والمخالفة والقتال وأعلن أن سبب هذه الفتن هي النساء والأموال؛ لذا رأى أن تباح النساء لكل راغب، وأن تباح الأموال لكل طالب حتى يشترك فيها الناس اشتراكهم في الماء والهواء. وقد انتشر مذهبه في عامة بلاد فارس ودخل فيه (قباد) نفسه.

وقام الفقراء بتقتيل الأغنياء، وصار الجماعة منهم يدخلون على الرجل فيقتلونه ويثبون على أمواله ونسائه، فغضب لذلك بعض عظماء فارس وبخاصة (أنو شروان بن الملك قباد) وزعيم آخر يقال له (ساجور) وتآمروا على مزدك وقتلوه وخلعوا (قباد) وعينوا أخاه (جاماسب) ملكًا عليهم وحاولوا القضاء على الفتنة المزدكية، غير أن قباد استطاع أن يعود إلى الملك وأن يحبس أخاه.

فقوي بذلك شر المزدكية من جديد واستمرت إلى أن قُتِل قباد وتولى بعده ابنه (أنو شروان) الذي ولد في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-. فلما استقل بالملك وجلس على السرير وقال لخواصه:
"إني عاهدت الله إذا صار إليّ الملك ألا أبقي على أحد من المزدكية الذين أفسدوا أموال الناس ونسائهم".

وكان عند سريره رجل مزدكي فقال لأنو شروان:
"أتقتل الناس جميعًا؟".

فنظر إليه (أنو شروان) وقال له:
"أتذكر يا ابن الخبيثة يوم طلبت من أبي أن يأذن لك بالمبيت عند أمي فأذن لك، ولما ذهبت إلى حجرتها لحقت بك وقبلت رجلك التي أثر نتن جوربها في أنفي وتضرعت إليك حتى وهبتها لي ورجعت؟".

فأقر الرجل أمام الحاشية بما قال الملك، فأمر بقتله فضربت عنقه وأحرقت جثته، ثم أمر (أنو شروان) باستئصال شأفة المزدكية وقضى عليهم.

(كارل ماركس)
كما عرفت الشيوعية في العصر الحديث في صورة متقاربة بزعامة رجال تكاد تتشابه ظروف حياتهم مع حياة مزدك الفارسي وأشهر هؤلاء الزعماء (كارل ماركس).

حياته:
وقد ولد كارل ماركس 1818م من أبوين يهوديين، غير أن أباه لم يستقر على دين آبائه اليهود، فقد تنصر وترك دين اليهودية، أما كارل ماركس فقد ظهر في أول شبابه حريصًا على الدين فقد أثر عنه أنه كان يقول آنذاك:
"الدين أساس الحياة الإنسانية، وهو يلقننا الحكمة والخير".

نفسيته:
بيد أن خبيئة ماركس كانت تعلن عن نفسها في كثير من الأحيان، وقد كان هذا الإعلان يبدو تناقضه في كثير من الأحوال، ويعلل ذلك (أوتورهل) الماركسي إذ يقول:
"إنه كان نموذجيًا فيما كان يعانيه من اختلال نشاطه الروحي، وكان على الدوام متقلبًا حقودًا لا يزال في تصرفه عرضة لتأثير سوء الهضم والانتفاخ وهياج الصفراء، وكان موسوسًا يغلو كجميع الموسوسين في الشعور بمتاعبه الجسدية".

وقد عثر على رسالة كتبها والد ماركس يصف فيها حال ولده بأنه يقضي جل لياليه مرهقًا جسده وعقله في دراسة لا لذة فيها، معرضًا عن جميع الملهيات في طلب المشكلات الغامضة ليهدم غدًا ما بناه اليوم.

وقد كان ماركس يهمل دروسه ويتقطع عن معهده الأسابيع المتواصلة متابعًا لما شذ من الآراء التي يبنيها اليوم ويهدمها غدًا أو باحثًا عن اللذة الجنسية والمتاع الجسدي، وقد شغف أولًا بدراسة المذاهب الاقتصادية وحصل على شهادة الدكتوراه بالمراسلة من جامعة جينا الألمانية عام 1841م.

وكان ماركس أيام حياته الدراسية عالة على أبيه (هرشل) فلما مات أبوه صار عالة على أمه وأخته حتى عجزتا عن مواصلة الإنفاق عليه، فصار يلجأ إلى الاستدانة من أقربائه وأصدقائه وبخاصة من (أنجلز) قرينه في الدعوة على الشيوعية.

وكان أصدقاؤه إذا ضاقوا من طلباته حاولوا أن يكلفوه ببعض الأعمال التي قد تدر عليه بعض الرزق ولكنه كان يبوء بالفشل في كل عمل يُسند إليه.

وكان ماركس قد تعرف على فتاة بارعة الجمال أثناء دراسته للحقوق في جامعة بون تُدعى "جيني"، ولم يكن أحد قد اشتم منه رائحة نزعته الشيوعية إلى ذلك الحين وكان عمره لا يتجاوز العشرين، وقد وقعت الفتاة في قلبه وهام بها، ولم يكن في أول أمره ذلك يفكر في الزواج منها نظرًا لأنها من طبقة فوق طبقة أهله، والتقاليد تقف حجر عثرة في سبيله غير أن الفتاة بادلته الحب ورغبت في الزواج منه ولم تعبأ بالفوارق الطبقية التي توجد بينهما.

وقد بذل ماركس وجيني كل ما يستطيعان لتحقيق حلمهما في الاقتران الرسمي وتمكين عواطفهما المشبوبة من الحصول على ثمرة طويلة، حتى تمكنا من ذلك إذ أعلنت الفتاة في عزم وإصرار أنها لن تتخلى عن ماركس مهما كانت الفوارق الطبقية بينهما، وأنها راضية به على أية حال.

وعلى الرغم من تحقيق هذا الحلم، فقد بدأ ماركس يشعر بالحقد الثائر نحو نظام الطبقات الذي كاد يحول بينه وبين حبيبته جيني، وقد بدأت مشكلة المعاش له ولزوجته تتعقد أمام ماركس فقد زادت نفقاته ولم يتحسن إنتاجه ولا سيما بعد أن صار ذا أولاد.

وقد صورت زوجته جيني ما صارت إليه هي وزوجها من البؤس في كتاب إلى صديق لها تطلب منه أن يمد لها يد المساعدة قالت فيه:
"إئذن لي أن أصف لك يومًا من أيام هذه الحياة، وسترى أن غيرنا لم يقاسِ ما قاسيناه، فأنا مريضة سقيمة ومع أن ثديي وظهري بهما أوجاع وآلام بالغة، فإنني مضطرة إلى أن أرضع طفلي الرابع حديث الولادة؛ لأنني لا أستطيع أن أدفع أجرة مرضعة، ولكن كان طفلي يرضع الحزن والوجع فيتلوى من المرض ليلًا ونهارًا، ومع هذا الفقر والحاجة فقد دخلت علينا صاحبة المنزل وطلبت منا أجرة البيت كما طالبت بما علينا لها من القروض، ولما كنا عاجزين عن الدفع فقد حجزت على كل ما نملك في البيت حتى فراش الطفل وباعته بما لها علينا من الدين، ثم طردتنا إلى الشارع والمطر ينهمر بغزارة، والبرد القارس لا يرحم، وبذل زوجي ماركس كل ما في وسعه من جهد فلم نجد من يقبل إيواءنا".

كما كتبت جيني مرة أخرى تصف إحدى ليالي البؤس التي مرت بها وبماركس فتقول:
"أحست ابنتنا بنزلة شعبية، وصارعت الموت ثلاثة أيام ثم ماتت وأخذنا نبكي عليها ولم يكن لدينا ما نجهزها ونكفنها به، وأبقينا الجثة حتى نجد ما نستعين به على دفنها، ومضيت إلى جار فرنسي مهاجر فأعطاني جنيهين!..
وا أسفاه!.. وفدت ابنتنا إلى الدنيا فلم تجد مهدًا وعندما غادرت الدنيا لم نجد كفنًا".

من هذه الصور نستطيع أن نعرف الدوافع التي حدت بماركس أن يكون داعيًا لمصارعة الطبقات ثائرًا عنيدًا في الدعوة إلى الشيوعية، عبدًا ضارعًا أمام محراب المادية... ينفث سمومه في نواحٍ متعددة من أوروبا ولا سيما في إنجلترا حتى مات عام 1883م.

ولما قامت الثورة الروسية ضد القياصرة من أسرة -روما نوف- بعد الحرب العالمية الأولى وتسلم قيادة الثورة لينين أحد الماركسيين ظهرت الشيوعية الرسمية لأول مرة في العصر الحديث.

(المذهب الماركسي)
روحه وصورته:
للمذهب الماركسي روح وصورة، أما روحه: فهي فلسفته في الكون وأنه لا أثر فيه لغير المادة فلا إيمان إلا بالمادية.
وأما صورته: فهي المخططات الرئيسية التي لا بد منها لقيام المجتمع الشيوعي.

المادية:
أعلن ماركس بأنه لا يؤمن بغير المادة، وأن كل شيء في الوجود إن هو إلا أثر من آثار المادية، والمادية في نظر كارل ماركس تعني عدم الإيمان بالغيب كما تعني الكفر بالله فاطر السماوات والأرض، وإنكار جميع المظاهر الدينية والمذاهب الروحية، والمنازع الأخلاقية، والتقاليد ونظام الزواج والأسرة، وكذلك إنكار العواطف والتأثيرات النفسية والوجدانية، والعلوم والمعارف والآداب؛ فهذه كلها في نظره من تضليلات أصحاب الثروة (الرأسماليين) لاستغلال الفقراء والمساكين. وليس هناك إلا المادة فهي التي تكون وقائع التاريخ وما المظاهر الكونية كلها إلا مادة بحتة.

الدين:
يزعم ماركس أن الدين وسيلة من وسائل الاستغلال، اخترعه أصحاب الثروة والمسيطرون على مصادر الإنتاج ليخدروا به الشعب حتى يسهل استغلالهم وتتيسر سرقتهم، وقد اضطرب ماركس في شأن الدين اضطرابًا عنيفًا، فمرة يقول فيه: أنه "أفيون الشعب" الذي يخدرها عن رؤية الحقائق المادية، ومرة يزعم أنه انعكاس القوى الظاهرية التي تسيطر على معيشة الإنسان اليومية، على معنى أن الإنسان يرى في المناظر الطبيعية قوة جبارة لا مناص له من الخضوع لها، فتراه يعبد منها ما لا يدركه وطورًا يصفه بأنه "تزلف من واضعيه إلى أرباب السلطان وأصحاب رؤوس الأموال".

وحينًا يقول:
"إنه الغذاء الخادع للضعفاء؛ لأنه يدعوهم إلى احتمال المظالم في الوقت الذي لا يتمكن من إزالتها"، وأحيانًا يقول: "هو خمرة الشعوب يروضها على الفقر والمسكنة ويلهيها بما يغريها من نعيم الآخرة عن نعيم الدنيا ليستأثر به سادة المجتمع ويغتصبوا منه علانية أو يسرقوا منه خلسة ما يطيب لهم أن يغتصبوه أو يسرقوه".

وموقف ماركس المضطرب في الدين قرينة لاضطرابه النفسي، وعجر ظاهر عن مقارعة الشرائع وقد فاق ماركس الدهريين في إنكار ما وراء المادة إذ قالوا: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24]. فإن ماركس حاول أن يفسر المظاهر الدينية بهذه الآراء المضطربة.

فأين الرأسماليون الذين أتى وحيهم بالإسلام؟ وهل علم ماركس والماركسيون بقصة الملأ من قريش حينما أرسلوا أحد زعمائهم إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول له:
"إن كنت تريد المال جمعنا لك منه ما تريد حتى تصير أغنانا، وإن كنت تريد الملك ملكناك علينا، وإن كان بك شيء عالجناك".
وحينما انتهى سفير قريش من هذا الخطاب يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-:
"انتهيت يا عم؟" ثم يقرأ أول سورة فصلت حتى يبلغ: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13].
وحينئذ تتسرب أنوار الحقيقة إلى قلب ذلك السفير ويخاف على نفسه فيضع يده على فم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويقول: "ناشدتك الرحم أن تكف"، ثم يأتي إلى قومه وينصحهم طاعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويقول:
"إن لكلامه لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليس من كلام البشر".

وهل علم ماركس والماركسيون قصة الملأ من قريش حينما اجتمعوا في بيت أبي طالب يقولون له: "إما أن تنهى محمدًا عن تسفيه أحلامنا، وتضليل معتقداتنا أو تخلي بيننا وبينه" حتى يقول له عمه: "يا ابن أخي لو أبقيت على نفسك"؛ فيقول له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
«والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه».

وهل يظن ماركس والماركسيون الملأ من قوم فرعون هم الذين أوحوا إلى رسول الله موسى -عليه السلام- بالدين الذي جاءهم به ودعاهم إليه، فيقول فرعون: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23]، فيقول: {قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء:24].
فيقول لمن حوله: {أَفَلا تَسْمَعُونَ} [القصص:71].
حتى يقول موسى: {رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} [الصافات:126]. فيقول فرعون: {فإِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء:27]، فيقول موسى: {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء:28]، حتى يقول فرعون: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29]، فيقول موسى: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ} [الشعراء:30].

وهل يظن ماركس والماركسيون أن الملأ من قوم فرعون أو من بني إسرائيل هم الذين أوحوا إلى موسى بتحريم المراباة وأن يقاد للنفس بالنفس، والعين بالعين، والأذن بالأذن والسن بالسن، وأن الجروح قصاص.

وهل يظن ماركس أن أغنياء اليهود والرومان هم الذين أوحوا إلى عيسى بن مريم حتى جاء بالإنجيل وهو الذي أثر عنه أنه يقول:
"إن دخل إلى مجمعكم رجل واحد بخواتيم الذهب في لباس بهيّ ودخل معه فقير بلباس وسخ فنظرتم إلى اللابس اللباس البهي وقلتم له:
- اجلس هنا حسنًا.
- قف أنت هناك أو اجلس تحت موطئ القدمين.
فهل لا ترتابون في أنفسكم وتصيرون قضاة أفكار شريرة؟".

وهل علم ماركس أن رجلًا من فقراء المسلمين مر على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو جالس مع بعض أصحابه -رضي الله عنهم- فقال: "ما تقولون في هذا؟" قالوا:
"حري به إن خطب ألا يخطب، وإن قال ألا يستمع، وإن شفع أن لا يشفع"، ثم مر رجل من أغنياء المسلمين، فقال: "ما تقولون في هذا؟" قالوا: "حري به إن خطب أن يخطب، وإن شفع أن يشفع وإن قال أن يستمع". فقال -عليه الصلاة والسلام-: "هذا -يعني الفقير- خير من ملء الأرض مثل هذا -يعني الغني-".

ولا شك أن ماركس يجهل هذه الحقائق ولا يدري عنها شيئًا ولو أدعى معرفتها لكانت البلية أخطر والمصيبة أعظم:

فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة *** وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم

الأخلاق والآداب:
يحارب الماركسيون جميع الأخلاق التي قد يتصف بها شعب من الشعوب أو فرد من الأفراد، بدعوى أن هذه الأخلاق سواء كانت فردية أو جماعية ما هي إلا أثر من الآثار التي أوحى بها (الإقطاعيون) وإن هي إلا خداع وتضليل للعمال والفلاحين من قبل الملاك وأصحاب الأموال.

والخلق الوحيد الذي آمن به الشيوعيون هو وجوب مخالفة سائر الأنظمة الأخلاقية ومحاربة عموم أنواع الآداب المرعية في المجتمعات الإنسانية وبخاصة ما كان منها نتيجة للأوامر الإلهية.

وقد قادهم هذا الشذوذ الخلقي إلى هتك الأسرة ومحاربة ناموس الزواج، ورأوا أن هدم ذلك من أقوى دعائم الشيوعية فتساوى الزواج والزنى في نظامهم، وحسن في أعينهم وقاع أمهاتهم وأخواتهم وبناتهم وعماتهم وخالاتهم، وانحطوا في سلوكهم الأخلاقي عن كثير من الحيوانات العجماوات.
وقد أصبحت لفظة (الكرامة) عندهم لفظة مرذولة فالمحبوب لديهم أن يطوروا بالرفقاء الأنذال، وأضحت كلمة (الشرف) من الألفاظ المدسوسة على الإنسانية بواسطة أصحاب الإقطاع فيجب أن تداس بالأقدام، و(الأمانة) دسيسة خبيثة من دسائس المحافظة على رؤوس الأموال.

المعارف والعلوم:
كما ينكرون أشد الإنكار أن تأتي من طريق السماء، وإنما تكون فقط وليدة حاجته المادية ومطالبه الحيوانية.
أما العلوم والمعارف والنظريات التي لا تخضع لهذا التفسير الشيوعي فهي في نظرهم، تضليلًا... وتخيلات... وأوهام.

(المخططات الرئيسية لقيام المجتمع الشيوعي):
يرى ماركس أنه لابد لقيام المجتمع الشيوعي من خمسة أركان يبني عليها وهي:
1- استيلاء الطبقة الكادحة من العمال والفلاحين على مقاليد الحكم في أول الأمر.
2- تأميم وسائل الإنتاج ومصادر الثورة.
3- القضاء على رأس المال.
4- القضاء على الطبقات.
5- ثم القضاء على الحكومة.

1- (استيلاء الطبقة الكادحة على مقاليد الحكم)
يرى ماركس أن (الأجراء) ولا سيما الأجراء في الصناعة قابلون (للثورة الاجتماعية) لأنهم لا يملكون شيئًا في المصانع، ولعلهم كذلك يحملون في الغالب قلوبًا مملؤة بالحقد والضغينة على أصحاب الأموال، وهم الأداة السهلة اللينة التي تؤثر فيها مختلف الدعايات لذلك اعتبر ماركس أن أول المخططات الضرورية لقيام المجتمع الشيوعي هو قيام الطبقة الكادحة -البروليتاريا- من العمال الصناعيين والأجراء الزراعيين بالاستيلاء على مقاليد (الحكم) ومناصب الدولة حتى يهدم بهم الحكومات القائمة.

ونحن لا نرى عيبًا في هذه القاعدة من حيث أن تكون الحكومة من طبقة الفقراء فإن الفقر والغنى في نظرنا أعراض غير ذاتية بل تتغير وتتبدل، إذ المال ظل زائل وعارية مستردة، والفرد عندنا بأخلاقه وآدابه لا بأمواله وكثرة متاعه.

وما المال والأهلون إلا ودائع *** ولابد يومًا أن ترد الودائع

غير أننا لا نرى أن يكون المسيطرون على مقاليد (الحكم) ولابد من طبقة الفقراء، إذ الغالب عليهم الفوضى والجهل، ولله در الشاعر إذ يقول:

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم *** ولا سراة إذا جهالهم سادوا

غير أن نظام الماركسيين ينص على:
(أن قيام حكومة العمال والفلاحين هو شيء (مؤقت) وأنه حركة انتقالية إلى مرحلة الشيوعية الحقيقية التي لا تبقى فيها حكومة وإنما ينطلق الشعب حرًا بلا حكومة ولا سلطان).

بيد أن واقع الحياة الشيوعية لم ير هذه النظرية مطبقة في أي قطر من الأقطار التي بليت بهذا النظام، فجميع البلاد التي صالت إلى الشيوعية قامت حكومتها من جنس الحكومات التي كانت في تلك البلاد قبل الحكم الشيوعي.

ولم يقع أبدًا أن صارت حكومة شيوعية من طبقة العمال والفلاحين، ففي روسيا مثلًا كان الدور الذي قامت به الطبقة الكادحة هو إشعال نار الثورة ضد الحكم القيصري والقضاء عليه، ولما تم لرؤساء الحزب الشيوعي ما أرادوا من سقوط عرش آل (روما نوف) قبض رؤساء الحزب الشيوعي على زمام الحكم وأزاحوا العمال والفلاحين من الطريق وردوهم مدحورين إلى المصانع والمزارع ليقاسوا تحت سخط الحزب الشيوعي أشد ألوان المهانة والإرهاق.

وقد قام العمال والفلاحون بعدة ثورات كانت تقابل بأنكى صنوف القمع والإرهاب، ولم تمنع وسائل التعذيب الإجرامية هؤلاء من أن يقوم الكثير منهم بإحراق المحاصيل وتبديد الماشية والأموال حتى لا تقع في يد هؤلاء الحكام المستبدين.

وقد حاول (ستالين) أن يقضي على ثورات الطبقة الكادحة بألوان شتى من أنواع القتل والحبس والنفي في مجاهل (سيبيريا) والتهديد والوعيد فلم يفلح.

وفي منشور له في هذا الصدد يقول:
"لكي يضمن الكولخوزيون المزارعون لأنفسهم الحياة والمعيشة يتطلب ذلك منهم أن يعملوا في (الكولخوزات) المزارع التعاونية ويحافظوا عليها ولا ينسوا مسؤوليتهم تجاهها"، ولما قال العمال لستالين: "لقد انتقلت السلطة وتركزت في يد حزب واحد هو حزبنا ولن يشاركنا في توجيه الدولة أي فئة أخرى، وهذا ما يعنيه بالدكتاتورية العمالية".

وهكذا، نرى المخطط الأول من المخططات التي رسمها ماركس للمجتمع الشيوعي لم تكن إلا حبرًا على ورق كما يقولون، بل صار العمال والفلاحون في المجتمع الشيوعي أحط أنواع العمال والفلاحين في العالم.

2- (تأميم وسائل الإنتاج ومصادر الثروة):
يرى الماركسيون أن السبب الرئيسي لتكوين الطبقات هو وسائل الإنتاج ومصادر الثروة فلا بد للقضاء على (نظام الطبقات) من القيام:
أولًا: بتأميم وسائل الإنتاج ومصادر الثروة، وجعلها بدل أن تكون ملكًا لبعض الأفراد أن تصير ملكًا لجميع الأمة.
وهذا التأميم كذلك يعتبر خطوة أولى لخطوة تليها هي القضاء التام على رؤوس الأموال والملكيات الفردية مهما كان نوعها، وهذه النظرية لا ترى أية حرمة لمن بيده شيء من مصادر الثروة ووسائل الإنتاج، كما لا ترى أية قيمة لما بذله الأفراد في سبيل مشروع ولو في الأصل على الأقل للحصول على ما بأيديهم من أموال.

ولسنا نجادلهم بالأدلة الدينية التي توجب مراعاة الحرم والمحافظة على حقوق ذوي الحقوق، فإن الدين في نظرهم هو "أفيون الشعوب" وإنما نقول لهم:
لقد أممتم مصادر الثروة ووسائل الإنتاج، فماذا فعلتم بهذه الأموال المؤممة، وكان المفروض بناء على دعواكم الأساسية أن تصير ملكًا للمجموع يتساوون في الانتفاع بها. فهل صار في متناول كل فرد من أفراد أمتكم أن يحصل على شيء من هذه الأموال يسد بها عازته ويقضي منها وطره وحاجته؟

والواقع أن الأموال المؤممة إنما انتقلت من ملك أربابها ومكتسبيها إلى خزينة الدولة ليتصرف فيها الحكام حسب أغراضهم وأهوائهم وليبذلوا ما شاؤوا في سبيل امتداد حكمهم وسلطانهم ولينغمسوا بها في الشهوات والملاذات إلى حلوقهم وأذقانهم، وقد كانت نتيجة هذا التأميم سلب أسباب الغنى من الأغنياء وإدامة الفقر والمسكنة للمساكين والفقراء.

3- (القضاء على رأس المال):
والمخطط الثالث من المخططات اللازمة لقيام المجتمع الشيوعي هو القضاء على (رأس المال) بدعوى أن رأس المال يشكل العمود الرئيسي للظلم الواقع على رأس (الطبقة الكادحة)، أما كيفية هذا الظلم فيقرر الماركسيون بأن قيمة كل شيء هو العمل الإنساني الذي بذل فيه، وإذا لم يكن هناك استغلال وجب أن يأخذ العامل ثمرة العمل كلها، إلا أن أصحاب رأس المال (يستغلون) اضطرار العامل فلا يعطيه من قيمة عمله إلا جزءًا يسيرًا قد لا يفي بكفايته ولا يقوم بحاجته الضرورية من القوت ثم يأخذ صاحب رأس المال الزيادة لنفسه، ويصرفها في توسيع ثروته فيزداد إمعانًا في الظلم وإغراقًا في سرقة حقوق العامل.

وهذه الزيادة بين رأس المال الأصلي وقيمة الإنتاج يسميها كارل ماركس (القيمة الفاضلة). هذه القيمة الفاضلة قد ذهب أكثرها إلى صاحب رأس المال، وقد كان من حق العامل أن يستولي على هذه القيمة الفاضلة كلها، لأنها في الواقع عند (ماركس) قيمة عملة وثمرة كده؛ لذلك رأى ماركس من الضروري القضاء على رأس المال حتى تتحطم السلاسل والأغلال التي يكبل بها الرأسماليون العمال والكادحين، ولا بد أن يسري على الجميع بعد ذلك قانون قاطع هو:
"إن لكل حسب حاجته، ومن كل حسب طاقته"، ومعنى ذلك أن الدولة تكفل لكل إنسان قدر ما يحتاجه في معاشه من مطعم وملبس ومسكن، وتكلفه في نظير ذلك أن يبذل للدولة ما يطيقه من العمل!

هذا... ودعوى الماركسيين أن رأس المال يشكل العمود الرئيسي للظلم الواقع على رأس الطبقة الكادحة هي دعوى فاسدة بل رأس المال قد يكون سببًا في كثير من الأحيان في مد يد المساعدة والعون للطبقة الكادحة وتيسير أسباب المعايش لهم.

كما أن دعوى الماركسيين أن قيمة كل شيء هو العمل الإنساني الذي بذل فيه، وأن العدالة تقتضي أن يحصل العامل على جميع القيمة الفاضلة هي دعوى منافية للعدل والإنصاف كذلك لما فيها من إلغاء اعتبار الأدوات والآلات التي بذلها صاحب رأس المال والتي يسرت للعامل هذا العمل، كما أن أبسط قواعد الاقتصاد تبرهن على أن قيمة الشيء ليست العمل الإنساني الذي بذل فيه.

فالسلعة الواحدة قد يصنعها عامل في يوم ويصنعها عامل آخر في يومين، وقد يباع كتاب في سنة ما بدينار واحد ولا يساوي في سنة أخرى أكثر من ربع دينار، وهذا الصنف من الشراب قد يرتفع سعره في بلد وينخفض في بلد آخر في نفس الوقت مع أن العمل الإنساني الذي بذل فيه إنما هو عمل واحدـ، بل قيمة الشيء غالبًا تخضع لنظام (العرض والطلب).

كما أن القانون الذي قرروا أن يكون لكل حسب حاجته ومن كل حسب طاقته، هو قانون خيالي؛ لأن حاجات الناس متفاوتة كتفاوت طبائعهم، أي أن هذا العامل قد يكفيه قليل من الخبز والإدام لتوليد طاقة العمل في بنيته، وقد يزامله عامل آخر في نفس العمل ولا يكفيه ضعفه من الخبز والإدام لتوليد طاقة العمل لديه، كما أن بعض العمال قد يستطيع مباشرة عمله في الشتاء بلباس خفيف ولا يستطيع زميله في العمل أن يباشر إلا بلباس ثقيل قد يكفله ضعف ما يحتاجه زميله السابق.

ومما يبين فساد هذه النظرية ومجافاتها لنظام الطبيعة والفطرة هو: عجز الشعوب التي سقطت في براثن دعاة الشيوعية عن تطبيقها، كما أنهم صاروا المثل الأسوأ في ظلم الطبقة الكادحة من الفلاحين والعمال.

فقد صار العامل في روسيا -مثلًا- يطلب منه أن يقدم أقصى ما يستطيع تقديمه من طاقة في مدة معينة، ثم تبيع الحكومة مجهود هذا العامل بأكثر مما كلفته حاجته التي فرضت أنها مساوية لمجهوده.

فمجهود العامل الذي يساوي ألف ريال كان ينبغي أن يحصل في نظيره على قدر حاجته التي يرى نفسه محتاجة إليها وقد تصل إلى ألف ريال مثلًا، غير أن الحكومة هي التي حددت حاجته بنفسها دون أن يحددها المحتاج نفسه، فقد قدرت له -مثلًا- ستمائة ريال فسرقت منه إذًا أربعمائة ريال.

وبهذا يكون هؤلاء الماركسيون قد وقعوا في أنحس مما عابوه على أصحاب رؤوس الأموال، على أن الدعوة للقضاء على رأس المال قد فشلت عند التطبيق لدى الشيوعيين فقد اضطرت روسيا -مثلًا- إلى أن تبيح للفلاحين أن يمتلكوا قطعًا صغيرة من الأراضي يستثمرونها لاستهلاكهم بشرط أن لا يعاونهم في استثمارها آخرون، كما نصت على ذلك المادة (السابعة والتاسعة) من الدستور السوفيتي كما أباحت الحكومة للفرد (تملك) أشياء أخرى كالماشية والبغال وإن كانت الحكومة قد فرضت على الملكيات الفردية الصغيرة ضرائب باهظة حتى تتلاشى وتموت.

4- (القضاء على الطبقات):
ذكرنا في بحث تأميم وسائل الإنتاج ومصادر الثروة أن الماركسيين يرون أن السبب الرئيسي لتكوين الطبقات وجود وسائل الإنتاج ومصادر الثروة وأنهم قرروا أن لابد للقضاء على نظام الطبقات من القيام بتأميم وسائل الإنتاج ومصادر الثروة وكأنهم بهذا يقررون أن القضاء على (الطبقات) لازمة من لوازم النظام الشيوعي بل هو أشد ضرورة من التأميم، لذلك أذاعوا وأشاعوا أنهم يركبون كل صعب وذلول لتحقيق ذلك الأمر الخطير.

تعريف الطبقة:
الطبقة في نظر أكثر الباحثين هي الفئة من الناس التي تختلف في مركزها الاجتماعي عن باقي الفئات التي تشكل معًا مجتمعًا ما.

فالعمال الزراعيون والصناعيون طبقة، وصغار الملاك طبقة، والمتوسطون في الأملاك طبقة، وأصحاب الثراء الواسع والملك العريض والإقطاعيون طبقة، والمهرة العسكريون طبقة، والأمراء والنبلاء طبقة، ورجال الدين طبقة.

وقد يصير الإنسان في طبقة من هذه الطبقات بسبب النسب كما قد يصير إليها بسبب العلم، ولا مانع أن ينتقل الإنسان من طبقة إلى طبقة أسفل، على حد قول القائل:

عرفته الكر والإحجامًا *** نفس عصام سودت عصامًا

وصيرته بطلًا مقدامًا
وقول القائل:

أبوك أب حر وأمك حرة *** وقد يلد الحران غير نجيب

وهذا التعريف (للطبقة) لا يمنع وجود تعاون بين طبقة وأخرى إذ هذا التفاوت الطبقي ضرورة من ضرورات العمران وسبب وجوده تفاوت الفطر، ولذلك يقال (الإنسان مدني بالطبع) قرر الله تعالى في القرآن الكريم هذه الحقيقة إذ يقول: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:32].

تعريف الطبقة عند ماركس:
أما كارل ماركس فقد عرف الطبقة: "أنها الطائفة التي تكون لها مصالح معارضة لمصالح طبقة أخرى"، وعلى هذا التعريف لابد من فرض الشقاق والنزاع ودوام الصراع بين عموم الطبقات؛ ولذلك زعم الماركسيون أنه من الضروري القضاء على نظام الطبقات وإيجاد مجتمع ديمقراطي على مستوى واحد تنعدم فيه جميع الفروق الطبقية على أية حال، وقد سعى الشيوعيون جهدهم وبذلوا كل ما يمكن بذله لتحقيق هذه الغاية فهل انعدم من المجتمع الشيوعي نظام الطبقات؟!

وجود الطبقات في المجتمع الشيوعي:
والواقع أن المجتمع الشيوعي يتمثل فيه ما يتمثل في غيره من الطبقات فلا يزال في روسيا -مثلًا- طبقة العمال والفلاحين، وطبقة القادة العسكريين، وطبقة رجال البوليس السري، والمخابرات، وطبقة العلماء والرجال الأكاديميين، وطبقة المهندسين، وطبقة الفنانين والرقاصين، وطبقة زعماء الحزب الشيوعي، وقد وجدت هذه الطبقات في المجتمع الشيوعي بحسب تفاوت الدخل الذي قدرته الحكومة لهؤلاء حسب ميزان الاحتياج الذي صنعوه، فقد جعل المعدل الوسط لحاجة العمال والفلاحين ما بين 600- 700 روبل، كما جعل المعدل الوسط للفنانين والرقاصين يتراوح ما بين 1400 إلى 2000 روبل، وجعل المعدل الوسط للقادة العسكريين والعلماء والمهندسين يتراوح بين 4000 إلى 7000 روبل. وقد عمدت الحكومة بعد الحرب العالمية الثانية إلى بناء منازل لأعضاء الأكاديمية ومنحت كل واحد منهم سيارة وسائقًا خاصًا، وبهذا تكون الشيوعية الرسمية قد أوجدت نظامًا طبقيًا أنحس مما عند غيرهم من نظام الطبقات، ولا شك أن محاربة أساس النظام الطبقي ما هو إلا الوقوف في وجه الطبيعة التي طبع الله الناس عليه، وحرب للفطرة التي فطر الله الناس عليها.

وقد سجلت حوادث التاريخ أن محارب الفطرة مدحور والمتصدي لقهر الطبيعة مقهور. ولسنا بهذا نقرر ترفع وتعالي طبقة على طبقة، أو بغي فئة على فئة، فنحن لا نرى فضل الرجل بماله، ولا نرى فضله بوظيفته، ولا نرى فضله بنسبه، وإنما الفضل عندنا بالأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة والمرء في الواقع بأصغريه قلبه ولسانه.

5- (القضاء على الحكومة):
الدعامة الخامسة من دعائم النظام الشيوعي هي القضاء على الحكومة والدولة، والشيوعيون يعتبرون أن القضاء على الحكومة هو النهاية الحتمية للنظام الشيوعي، وفي ذلك يقول ماركس:
- ".... وبعد أن تزول المنازعات بين الطبقات زوالًا نهائيًا خلال التطور وبعد أن يتركز الإنتاج كله في أيدي الأفراد المتشاركين عندئذ تفقد السلطة العامة طابعها السياسي"، ثم يقول أيضًا:
- "... والدولة هي سلطة الطبقة المنظمة تزول بزوال الطبقة وعندئذ يكون عهد الشيوعية بكل ما تعني الكلمة"، وكأن ماركس يقول إن وجود الحكومة مهما كانت من العوامل التي تقيد الشعب وتحول دون صبغته بكامل حريته فلا بد من زوال الحكومة لينطلق الشعب في طريق حريته إلى أقصى الحدود وكأن ماركس يرى أن حقيقة الشيوعية لا يمكن أن تتكامل ما دام على رأس الشعب حكومة تدبره، وفي ذلك يقول:
- ".... الشيوعية هي عهد تسوده الحرية وعصر يزدهر فيه الإنسان أكمل ازدهار فهو يحتم مع زوال الطبقات زوال الحكومة".

ونحن لا نستطيع أن نجزم هل كان ماركس جادًا فيما يقول حينما يقرر هذه الحقيقة على أنها من دعائم النظام الشيوعي؟ وهل كان ماركس متمتعًا بقواه العقلية حينما يخرج على الناس بمثل هذه النظرية التي لم يعرفها التاريخ البشري في مجتمع ما من المجتمعات المتمدنة والهمجية على حد سواء؟ وحتى لو فرض وجودها في مجتمع بدائي همجي، فهل يجيز العقل وجود مثلها في مجتمع ذي حاجات متفاوتة بل وإلحاح في طلب الكماليات، وهل ظن ماركس أن فطر الناس المتباينة وطبائعهم المتنازعة سيؤول بها الحال إلى الزوال فيعيش الناس في الأرض يأكلون من نباتاتها المختلفة ولحوم حيواناتها المتغايرة الطبائع، ثم يصيرون في نفس الوقت كملائكة السماء؟!

ولا نذهب بعيدًا لنراجع نحن أو غيرنا في ذلك حوادث التاريخ، وإنما نلقي نظرة عابرة على واقع الحكومة في (المجتمع الشيوعي)، فالمعروف الذي لا يشك فيه من عنده أدنى إطلاع أن الحكومة في بلاد الشيوعيين ومن ينحو نحوها تسير في طريق (الدكتاتورية) إلى حد لا نظير له في المجتمعات الأخرى، فمن مقررات ستالين: "أن تقرير المصير لأي فرد أو أمة أو جماعة يجب ألا يتضارب مع حق الحزب الذي يمثل الجماهير الكادحة في أن يحكم حكمًا ديكتاتوريًا".

بين الشيوعية والاشتراكية:
يستعمل الكثيرون الشيوعية والاشتراكية على معنى واحد غير أن بعض الناس يفرق بين الاشتراكية والشيوعية في الجملة من وجوه:
1- أن الاشتراكية هي الخطوة الأولى للشيوعية.
2- أن الاشتراكية لا تمانع في قيام حكومة من طبقة العمال والفلاحين بخلاف الشيوعية الحقيقية فإنها لا تجيز أي نوع من الحكومات.
3- أن الشيوعية لا تبيح أي نوع من الملكيات بخلاف الاشتراكية فإنها تجيز وجود بعض الملكيات الفردية في حدود ضيقة وعلى قواعد تؤدي في النهاية إلى تلاشي هذه الملكيات.

الإسلام والاشتراكية:
هذا ولم يزعم زاعم - مهما كان أن الإسلام والشيوعية قد يلتقيان، فلم نسمع إلى الآن صوتًا واحدًا يقول (أن الإسلام لا يتنافى مع الشيوعية) إذا أصل الشيوعية هو إنكار الألوهية والدين وإنما سمعنا أن بعض الناس -قد يكونون من المنتسبين للإسلام أو للعلم- يزعمون أن الإسلام لا يتنافى مع الاشتراكية وقد يتعامون عن أن الاشتراكية مذهب خاص بذاتية هذا المذهب تخلف ذاتية الإسلام في روحه وصورته، كما يتجاهلون أن الإسلام دين الله الحق قد أتى بجميع ما يسعد الناس في معاشهم ومعادهم.

وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يترك بابًا من أبواب الخير إلا دل الناس عليه ولا بابًا من أبواب الشر إلا حذر الناس عنه بيد أنهم يقولون: أن بعض نصوص القرآن كقوله تعالى: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر:7]. وكقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الناس شركاء في ثلاثة: في الماء، والنار، والكلأ». تدل على صحة المذهب الاشتراكي وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على جهل هؤلاء بحقيقة الإسلام عمومًا، وبمعنى هذه الآية وذلك الحديث خصوصًا؛ فالآية نزلت تشرح مصرف الفيء، وهو نوع خاص له طابع خاص من بين الأموال الإسلامية، وأما الحديث فقد بين موضع الشركة وهو الماء، النار، والكلأ، ولفظ الحديث يدل مفهومه على أن ما عدا هذه الأشياء الثلاثة من الأشياء التي يمكن أن يتملكها الإنسان لا اشتراك فيها، ولو سلمنا جدلًا أنه قد يفهم من هذه الأدلة الدلالة على صحة المذهب الاشتراكي -وإن كانت لا تدل بظاهر ألفاظها على ذلك كما أشرنا- فإن صريح الكتاب وصحيح السنة يدل بما لا مجال للشك فيه على حفظ ممتلكات الناس وأموالهم فيستمعوا إلى قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:188]، وإلى قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع: «ألا إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا»، ثم يؤكد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك فيقول: «اللهم هل بلغت؟ اللهم فاشهد».

ولا يختلف اثنان من أهل العلم في صحة حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ يقول: «من غضب شبرًا من أرض طوقه الله بسبع أرضين يوم القيامة»؛ فهذا هو دين الإسلام، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85].

مواصفات خيالية
جاء رجل إلى نخاس فقال له: "اطلب لي حمارًا ليس بالصغير المحتقر ولا بالكبير المشتهر، إن خلا الطريق تدفق، وإن كثر الزحام ترفق، لا صادم السراري ولا يدخلني تحت السواري، إن أقللت علفه صبر، وإن زدته شكر، وإن ركبته استقام، وإن ركبه غيري هام". فقال له النخاس: "اصبر، فإن مسخ الله أحدهم حمارًا شريته لك".

بقلم الشيخ: عبد القادر شيبة أحمد
المدرس بكلية الشريعة

المصدر: مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة

التعليقات (0 تعليق) إضافة تعليق