الميثاق الإلهي للمجتمعات البشرية

2020-06-28

الميثاق الإلهي للمجتمعات البشرية

في قوله عزوجل: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} [البقرة: 82-83]. هذا شروع في بیان مواد الميثاق المأخوذ على بني إسرائيل الشامل للماضين منهم والمعاصرين - وهو في الواقع ميثاق الله على جميع المكلفين من سائر أتباع النبيين والمرسلين - ويتكون هذا الميثاق من التكليف بثمانية أشياء لا سعادة لمجتمع من المجتمعات إلا بالاستمساك بها، ومن طبّقها كان من أهل جنات النعيم، ومن كفر بها كان من أصحاب الجحيم.

وهذه التكاليف الثمانية جاءت بعد القاعدة الكلية التي اشتملت عليها الآيتان السابقتان؛ وهما قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 81-82].

والتكليف الأول من هذه التكاليف الثمانية: هو قوله تعالى: {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ}، وهو يقتضي الأمر بعبادة الله وحده والتحذير من عبادة غيره، وهي الحقيقة الكبرى التي من أجلها خلق الله الجن والإنس، والسموات والأرض، وأقام سوق الجنة والنار، وهذا الأمر يقتضي أيضًا وجوب

معرفة الله وتوحيده في ربوبيته وألوهيته وأسمائه الحسنى وصفاته العلى، کما يقتضي هذا الأمر معرفة كيفية عبادته، ولا سبيل لمعرفتها إلا بالوحي والرسالة، فهو يقتضي الإيمان بالله وكتبه ورسله وملائكته واليوم الآخر والقدر خيره وشره.

أما التكليف الثاني: وهو قوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}، أي: وأن تحسنوا بالوالدين إحسانًا، ومقتضاه وجوب برِّهما والقيام بحقهما، ودفع كلِّ أذى عنها، وطاعتها في غير معصية الله حتى ولو كانا كافرين؛ لأنها هما السبب في وجود الولد بعد الله عز وجل؛ ولذلك قرن الله تبارك وتعالى وجوب الإحسان إلى الوالدين بوجوب عبادته وحده في مقامات كثيرة من كتابه الكريم، وأكد ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أحاديث شتى، وفي ذلك يقول عز وجل في هذا المقام: {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}، ويقول عز وجل: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36].

ويقول عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء: 23-25].

ويقول عز وجل: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت: 8].

ويقول عزوجل: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان: 14-15].

ويقول عزوجل: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف: 15-16]. 

وقد روى البخاري([1]) ومسلم([2]) في صحيحيهما من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- : أي العمل أحبُّ إلى الله تعالى؟ قال: «الصلاة على وقتها»، قلت: ثم أي؟ قال: «بر الوالدين»، قلت: ثم أي؟ قال: «الجهاد في سبيل الله»، کما روى مسلم في صحيحه([3]) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله قال: «رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف»، قيل: من؟ يا رسول الله قال: «من أدرك أبويه عند الكبر، أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنة»، كما روى البخاري([4]) ومسلم([5]) واللفظ لمسلم من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- قال: أقبل رجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله تعالى، فقال: «هل لك من والديك أحدٌ حيٌّ؟» قال: نعم بل كلاهما، قال: «فتبتغي الأجر من الله تعالى؟» قال: نعم، قال: «فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما»، وفي رواية للبخاري([6])  ومسلم([7]) من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: جاء رجل فاستأذنه في الجهاد، قال: «أحيٌّ والداك؟» قال: نعم، قال: «ففيهما فجاهد».   

أما التكليف الثالث: فهو قوله تعالى: {وَذِي الْقُرْبَى}، وهو يقتضي الأمر بوجوب الإحسان إلى الأقارب، ولذلك نبه الله تبارك وتعالى إلى وجوب الإحسان إلى الأقارب في غير موضع من الكتاب الكريم؛ حيث يقول في بيان مقاصد الشريعة التي تكوِّن المجتمع المثالي: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90]، وقد اعتبر الإسلام قطيعة الرحم من أفظع الجرائم، وأوجب على قاطع الرحم لعنة الله؛ حيث يقول عز وجل: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 22-23].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة قاطع) أي قاطع رحم، کما رواه البخاري([8]) ومسلم([9]) من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه. ولا شك أن الذي لا يصل رحمه لن يصل من سواهم؛ فهو قريب من كل شر، بعيد عن كل خير.

أما التكليف الرابع: فهو قوله تعالى: {وَالْيَتَامَى}، والإحسان إلى اليتامى أمارة من أبرز أمارات المجتمع السعيد، وهو صورة مشرقة من صور التكافل الاجتماعي.

والمعنى الأصلي لليتم هو الانفراد، يقال: صبي يتيم؛ أي منفرد من أبيه، ودرّةٌ يتيمة أي: ليس لها نظير، واليتيم من بني آدم: من مات أبوه قبل أن يبلغ الحلم، أما اليتيم من سائر الحيوانات فهو من ماتت أمه قبل أن يتمكن من القيام بحاجة نفسه.

وقد وصّى الله تبارك وتعالى بوجوب الإحسان إلى اليتامى في مقامات كثيرة من القرآن الكريم، ونهی عن قهر اليتيم، حيث يقول: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} [الضحى: 9]، وجعل إيذاء اليتيم علامة التكذيب بالدين، حيث يقول: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} [الماعون: 1-2]، أي يدفعه دفعًا عنيفًا، وقد بشَّر رسول الله ﷺ كافل اليتيم بالجنة في منزل قریب من منزل رسول الله ﷺ، فقد روى البخاري في صحيحه ([10]) من حديث سهل بن

سعد -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا)، وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما.  

والتكليف الخامس من هذه التكاليف الثمانية: هو قوله عز وجل: {الْمَسَاكِينِ}، والمساكين وهو جمع مسكين، وهو مأخوذ من السكون، كأنّ الفقر أخذه من الحَرَاك وأثخنه عن التقلُّب،

وقد جعل الله تبارك وتعالى الفقراء والمساكين مصرَفيْن من مصارف الزكاة في الإسلام.

والقاعدة عند أهل العلم: أن المسكين إذا ذكر وحده كالذي هنا فإنه بشمل الفقير كذلك، كما أن الفقير إذا ذكر وحده يشمل المسكين أيضًا، أما إذا عُطف أحدهما على الآخر كقوله في مصارف الصدقات للفقراء: {لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60]، فإن المسكين يراد به من يملك دون النصاب، وأن الفقير من لا يملك شيئًا ألبتة، فهما إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، والمسكين أحسن حالًا من الفقير؛ إذ الفقير أصله مَن كُسر فَقَارُه، والفقار جمع فقارة وهو ما انتُضد من عظام الصُّلب من لدن الكاهل إلى العَجَب، وقد وصف الله عز وجل أهل السفينة بأنهم مساكين حيث يقول: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف: 79]:

أما التكليف السادس من هذه التكاليف الثمانية؛ فهو قوله عز وجل: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}، أي: وخاطبوهم باللين من القول، واستعملوا معهم الرفق في الحديث مهما كانت أحوالهم، وقد وصّی الله تبارك وتعالى موسى وهارون -عليها السلام- أن يقولا لفرعون قولًا لينًا، حيث يقول عز وجل: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]، والرفق ما كان في شيء إلا زانه، والفُحش ما كان في شيء إلا شانه، ولذلك كثرت وصايا رسول الله ﷺ بالحض على الرفق والإحسان في القول، فقد روى البخاري([11]) ومسلم([12]) من حديث عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله ﷺ قال: (إن الله رفيق يحب الرفق في الامر كله)، كما روى مسلم([13]) من حديثها -رضي الله عنها- أن رسول الله ﷺ قال: (إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يغطي على ما سواه)، کما روى مسلم([14])  من حديثها -رضي الله عنها- أن رسول الله ﷺ قال: (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه) کما روى مسلم([15]) من حديث جرير بن عبدالله -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (من يُحرم الرفق يحرم الخير كله).

أما التكليف السابع والثامن؛ فهو قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}، وقد تقدم الحديثعلى هذين التكليفين عند قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43]، وهذه التكاليف الثمانية هي الأساس لكل مجتمع مثاليٍّ سعید([16]).

 

 

[1] - رقم (527).

[2] - رقم (85).

[3] - رقم (2551).

[4] - رقم (3004).

[5] - رقم (2549).

[6] - رقم (3004).

[7] - رقم (2549).

[8] - رقم (5984).

[9] - رقم (5984).

[10] - رقم (6005).

[11] - رقم (6024).

[12] - رقم (2593).

[13] - رقم (2593) (77).

[14] - رقم (2593) (78).

[15] - رقم (2593) (79).

[16] - تهذيب التفسير وتجريد التأويل، عبد القادر شيبة الحمد 1/193-198.

التصنيفات

التعليقات (0 تعليق) إضافة تعليق