الوفاء بالعهود فريضة ربانية وسلوك إسلامي

2020-06-28
من المعلوم بالاستقراء أن الله تبارك وتعالى إذا خاطب المؤمنين بهذا الخطاب أعقبه بأمرهم بخير أو بنهيهم عن شر، ولذلك أثر عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: "إذا سمعت الله يقول: {يا أيها الذين آمنوا}، فارعها سمعك؛ فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه"، فقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي ثنا نعيم بن حماد ثنا عبد الله بن المبارك ثنا مسعر حدثني معن وعون، أو أحدهما: أن رجلا أتى عبد الله بن مسعود فقال: أعهد إلي فقال: "إذا سمعت الله يقول: {يا أيها الذين آمنوا}، فأرعها سمعك فإنه خير يأمره أو شر ينهى عنه".

افتتح الله تبارك وتعالى هذه السورة الكريمة بقوله عز وجل : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، ولم يفتتح بهذه الافتتاحية سوى هذه السورة وسورة الحجرات وسورة الممتحنة، وقد لوحظ أن الله تبارك وتعالى خاطب المؤمنين في سورة المائدة هذه بقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، في ستة عشر موضعا، ومن المعلوم بالاستقراء أن الله تبارك وتعالى إذا خاطب المؤمنين بهذا الخطاب أعقبه بأمرهم بخير أو بنهيهم عن شر، ولذلك أثر عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: "إذا سمعت الله يقول: {يا أيها الذين آمنوا}، فارعها سمعك؛ فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه"، فقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي ثنا نعيم بن حماد ثنا عبد الله بن المبارك ثنا مسعر حدثني معن وعون، أو أحدهما: أن رجلا أتى عبد الله بن مسعود فقال: أعهد إلي فقال: "إذا سمعت الله يقول: {يا أيها الذين آمنوا}، فأرعها سمعك فإنه خير يأمره أو شر ينهى عنه"([1]).

ولا شك أن نداء المؤمنين بهذا الوصف من أعظم أسباب الحض على سرعة الامتثال والانقياد لما يأمرهم الله عز وجل به أو ينهاهم عنه عقب هذا النداء.

وقوله تبارك وتعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}، أي: أدوا لكل ذي حق عليكم حقه الذي تعاهدتم على أدائه والوفاء به، سواء كان حقا لله عز وجل عليكم مما يقتضيه إيمانكم وانقيادكم لأوامره عز وجل وأوامر رسوله، أو كان حقًا لبعضكم على بعض تعاهدتم على الوفاء به من الأمانات والبيوع والأنكحة والشركات والأمانات وسائر المعاهدات مما لا يتناقض مع كتاب الله ولا مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسواء كان إيجابه عليكم من الله عز وجل ابتداء، أو أن تكونوا قد أوجبتموه على أنفسكم والتزمتم به من نذر أو يمين أو نحو ذلك مما حض الشرع على الوفاء به.

وهذه الجملة الموجزة قد وضعت قاعدة كلية يندرج تحتها من الجزئيات ما لا يحيط به إلا الله عز وجل؛ مما يجلب للناس سعادة الدنيا والآخرة في كل عصر ومصر وجيل وقبيل، ولو لم يكن

للناس إلا هذه الجملة لكفتهم.

وقد ذكر الله تبارك وتعالى في غير موضع من كتابه الكريم وصف المؤمنين بأنهم يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق، ووصف الكافرين والمنافقين بأنهم ينقضون العهود والمواثيق؛ حيث يقول تبارك وتعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة: 26-27]، وقال عز وجل: {فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد: 19-25]، وقال تبارك وتعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 75-77]، وقال تعالى في المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8]، وقال في الكافرين: {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} [التوبة: 10].

کما وصف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المنافقين بالغدر ونقض العهد؛ فقد روى البخاري([2]) ومسلم([3]) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان"، زاد مسلم في رواية له: "وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم"([4])، وفي رواية للبخاري([5]) ومسلم([6]): من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

قال: "أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر".

وأنذر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الغادر بأنه سترفع له راية غدره أمام الأولين والآخرين يوم القيامة، فقد روى مسلم([7]) من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله ﷺ قال: "إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة، يرفع لكل غادر لواء، فقيل: هذه غدرة فلان بن فلان"، كما روى البخاري([8]) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "قال الله: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعط أجره".

وقد جعل الله تبارك وتعالى في قمة أعمال الأبرار الوفاء بالنذر؛ حيث يقول عز وجل: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 5-8] ([9]).

 

[1]- تفسير ابن أبي حاتم 1/196، رقم 1037.  

[2]- رقم (33).

[3]- رقم (59) (107).

[4]- رقم (59)، (109).

[5]- رقم (34).

[6]- رقم (58).

[7]- رقم (1735).

[8]- رقم (2227).

[9]- تهذيب التفسير وتجريد التأويل 4/83-86.

التصنيفات

التعليقات (0 تعليق) إضافة تعليق