جمالية الأمثال في القرآن
لا شك أن المقصود من ضرب الأمثال هو تأثيرها العظيم في القلوب، وأنها أبلغ في تقريب الحقائق وإيضاحها من الوصف وحده، والنفس تحرص على معرفة ما احتواه المثل وينتقش فيها؛ لأن الغرض من المثل هو تشبيه الخفي بالجلي والغائب بالشاهد فيتأكد الوقوف على ماهيته، ويصير الحس مطابقة للعقل، وذلك أبلغ في الإيضاح، فالترغيب في الإيمان مجردًا عن ضرب مثل له بالنور لا يعمل في النفس الإنسانية كما يعمل المثل الذي ضربه الله عز وجل في قوله تبارك وتعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور: 35].
ولو رُهِّب من الكفر بمجرد الذكر من غير ضرب مَثَل له بالظلمة لم يتأكد قبحه في العقول کما يتأكد بتشبيهه بالظلمات والضياع في مثل قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 39-40].
ولو أراد واعظ أن ينبه إلى أن التعلق بغير الله لا يجدي صاحبه شيئًا، فإن ذلك لا يقع في النفس الإنسانية مؤثرا فيها؛ كما يؤثر ضرب مثل لذلك بنسج العنكبوت في قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 41-43].
وكما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73].
ولهذا أكثر الله تبارك وتعالى في القرآن العظيم من ضرب الأمثال للناس لعلهم يتذكرون.
كما أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يكثر من ضرب الأمثال؛ لتنتقش مدلولاتها في النفوس، كقوله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه البخاري([1]) ومسلم([2]) من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال النبي ﷺ: «مَثَلُ ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا؛ فكانت منها طائفة طيبة قَبِلَت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس؛ فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مَثَلُ من فَقُه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فَعَلِمَ وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أُرسلت به»)[3]).
-
2024-06-25 توحيد الربوبية وضلال الكفار
-
2024-06-25 بداية دخول الشرك على البشرية
-
2024-06-25 بيان ضلال نظريات فرويد
التعليقات (0 تعليق) إضافة تعليق