سنة الصراع بين الرسل وأقوامهم

2020-06-28
بعد أن ذكر الله تبارك وتعالى أنه أرسل شعيبًا -عليه السلام- إلى قومه مدین، وأنه أمرهم بإخلاص العبادة لله وحده، وأن الله عز وجل أيده بالبينات التي يؤمن على مثلها البشر، وأنه أمرهم بإيفاء الكيل والميزان، ونهاهم أن يبخسوا الناس أشياءهم، ونهاهم عن الإفساد في الأرض بعد إصلاحها، ونهاهم عن قطع الطريق وإخافة المارة، كما نهاهم عن الصد عن سبيل الله وعن حرصهم على سلوك الطريق المعوّج والمنهج غير الرشيد، وذكرهم بنعم الله عليهم، وخوفهم أن يصيبهم ما أصاب المكذبين بالرسل قبلهم كقوم نوح وقوم هود وقوم صالح، وما قوم لوط منهم ببعيد، وتوعدهم بأن الله يفصل بين الفريقين فينصر أولياءه ويهلك أعداءه.

قال تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: 88-89].

بعد أن ذكر الله تبارك وتعالى أنه أرسل شعيبًا -عليه السلام- إلى قومه مدین، وأنه أمرهم بإخلاص العبادة لله وحده، وأن الله عز وجل أيده بالبينات التي يؤمن على مثلها البشر، وأنه أمرهم بإيفاء الكيل والميزان، ونهاهم أن يبخسوا الناس أشياءهم، ونهاهم عن الإفساد في الأرض بعد إصلاحها، ونهاهم عن قطع الطريق وإخافة المارة، كما نهاهم عن الصد عن سبيل الله وعن حرصهم على سلوك الطريق المعوّج والمنهج غير الرشيد، وذكرهم بنعم الله عليهم، وخوفهم أن يصيبهم ما أصاب المكذبين بالرسل قبلهم كقوم نوح وقوم هود وقوم صالح، وما قوم لوط منهم ببعيد، وتوعدهم بأن الله يفصل بين الفريقين فينصر أولياءه ويهلك أعداءه.

شرع في بيان جواب قوم شعيب له، وأن رؤساء قومه المستكبرين تطاولوا عليه وعلى من معه من المؤمنين بعد أن سمعوا هذه المواعظ القيمة والنصائح البينة، وتوعدوهم بالنفي والإبعاد من أرضهم أو الإكراه على الدخول في ملتهم ومشاركتهم فيما هم عليه من الكفر والفسوق والعصيان، وأن شعيبًا -عليه السلام- بيّن لهم أن من دخل في ملتهم فقد أعظم الفرية على الله عز وجل، وأنه ومن آمن معه فقد توكلوا على الله الذي يحميهم من شر أعدائهم، غير أن هؤلاء الكافرين المكذبين أصروا على كفرهم وتكذيبهم فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين، ونجی الله شعيبًا ومن معه من المؤمنين. وفي ذلك يقول تبارك وتعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا}، إلى قوله تعالى: {لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} [الأعراف: 93].

ومعنى قوله عز وجل: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا}، أي لننفينّك يا شعيب ومن معك من المؤمنين من مدينتنا وأرضنا، وهكذا لم يأت نبي قومه بالرسالة إلا عادوه

وهددوه بالإخراج من بلده؛ ولذلك قال ورقة بن نوفل لما أخبره رسول الله ﷺ بما جاءه من الوحي في غار حراء: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى، ياليتني فيها جذعًا، ليتني أكون حيًا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله: أومخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودي، کما رواه البخاري([1]).

والمراد بالقرية هنا المدينة كما قال عز وجل في مكة: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد: 13].

والمراد بالعود في قوله عز وجل: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا}، الصيرورة؛ أي: لتصيرن في ملتنا، والعرب يستعملون عاد بمعنی رجع إلى ما كان عليه، وبمعنی: استمر، ومنه قوله عز وجل: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال: 38]، أي: وإن يستمروا على كفرهم، وتأتي عاد بمعنى صار كالذي في هذا المقام، قال ابن منظور في لسان العرب: "تقول: عاد الشيء يعود عودًا ومعادًا أي رجع، وقد يرد بمعنى صار؛ ومنه حديث معاذ: قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: أَعُدْتَ فتّانًا يا معاذ، أي صرت؛ ومنه حديث خزيمة: عاد لها النقاد مُجْرَنْثِمًا؛ أي: صار"([2]).

وهكذا كانت كل أمة تهدد رسولها وتتوعده بالنفي من أرضهم أو الصيرورة في ملتهم كما قال عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 13-14].

ومعنى قوله عز وجل: {أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ}، أي: أتخرجونا من قريتكم، وتصدوننا عن سبيل الله، وتجبروننا على الدخول في دينكم، ولو كنا کارهين لذلك.

وقوله تبارك وتعالى: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا}،

أي: قد أعظمنا الفرية على الله واختلقنا على الكذب إن صرنا إلى ملتكم ودخلنا في دينكم؛ لأن دینکم مبني على إقرار الشرك بالله واتخاذ الأنداد والأوثان من دونه، وذلك أقبح الكذب وأعظم الظلم والافتراء على الله، الذي له ما في السموات وما في الأرض وهو رب كل شيء وسيده ومليكه، وقد خلصنا الله تبارك وتعالى من الشرك به، فلن نشرك بربنا أحدا.

وقوله عز وجل: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا}، أي: وما ينبغي لنا ولا يتأتی منا أن نصير إلى دینکم وندخل في ملتكم، ولا حول ولا قوة لنا إلا بالله الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد؛ فإنه إن كان قضى على أحد من أهل ديننا أن يصير إلى دينكم ويرتد عن الدين الحق؛ فإن مشيئة الله نافذة، ولا راد لقضائه ولا معقب لحكمه ومشيئته الكونية القدرية، وهو ربنا الذي بيده نواصينا، وهو مالك أمورنا، ومدبر شئوننا، ومصلح أحوالنا.

 وقوله تبارك وتعالى: {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ}، تیئیس لكفار قوم شعيب عليه السلام من دخول شعيب ومن معه من المؤمنين في ملتهم وصيرورتهم إلى دينهم، وبيان بأن شعيبًا ومن معه من المؤمنين قد استسلموا لله الذي أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا، واعتمدوا عليه عز وجل في تثبيتهم على الدين الحق الذي بعث الله به شعيبًا عليه السلام، وأعلنوا ضراعتهم إلى الله عز وجل أن يفصل بينهم وبين أعدائهم، وأن يقضي بينهم بالحق، وأن ينصر رسوله ومن معه من المؤمنين، فإنه عز وجل خير الفاصلين وأحكم الحاکمین([3]).

 

 

[1]- رقم (6982) من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.  

[2]- لسان العرب 3/317.   

[3]- تهذيب التفسير وتجريد التأويل 5/232-235.   

التصنيفات

التعليقات (0 تعليق) إضافة تعليق