شرك المحبة أساس كل شرك

2020-06-28
وقد ضرب الله تبارك وتعالى في هذا المقام الكريم من سورة البقرة مثلًا من أمثلة انحراف بعض الناس عن صراط الله المستقيم، وتعلقهم بأنداد وشركاء الله عز وجل حتى صاروا يحبونهم حبًا يعادل حبهم لله رب السموات والأرض مع أن العاقل لا يرضى أبدًا أن يساوي في حبه بين من أوجده من العدم ومنحه كل النعم، وبين مخلوق ضعيف لا يملك له نفعًا ولا يدفع عنه ضرًا.

قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165].

وقد ضرب الله تبارك وتعالى في هذا المقام الكريم من سورة البقرة مثلًا من أمثلة انحراف بعض الناس عن صراط الله المستقيم، وتعلقهم بأنداد وشركاء الله عز وجل حتى صاروا يحبونهم حبًا يعادل حبهم لله رب السموات والأرض مع أن العاقل لا يرضى أبدًا أن يساوي في حبه بين من أوجده من العدم ومنحه كل النعم، وبين مخلوق ضعيف لا يملك له نفعًا ولا يدفع عنه ضرًا.

ولا شك أن الإنسان السوي يعرف لذي النعمة نعمته والإنسان أسير الإحسان كما قال الشاعر:

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم *** فطالما استعبد الإنسان إحسانا

فكيف يليق بعاقل أن يعادل في حبه لله الحي القيوم ذي الجلال والإكرام أحدًا من الخلق مهما كان، ونحن نعلم علم اليقين أن محمدا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد جعله الله سببًا لمنافع لنا في ديننا ودنيانا لا تحصى، وأنه أفضل خلق الله وأكرم عباد الله وأعظم البشر نفعًا للبشر، بل حتى للحيوانات العجماوات التي كان يوصي بالإحسان إليها صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك كله لا يجوز أبدًا أن نجعل حبه في قلوبنا كحبنا الله عز وجل الذي تفضّل علينا به، كما أننا نحب أبا بكر وعمر وعثمان وعليًا وسائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحب أنفسنا وأبناءنا وبلادنا، ومع ذلك لا يجوز أن نساوي بين حبنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحب أحد من هؤلاء الذين نحبهم، وقد نفديهم بأنفسنا؛ ولذلك لما ذكر عمر -رضي الله عنه- لرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه يحبه أكثر من كل شيء إلا من نفسه، فأخبره رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أنه لن يؤمن حتى يحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثر من حبه لنفسه.

فقد روى البخاري في صحيحه([1]) من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: لأنت يا رسول الله أحبُّ إلي من كل شيء إلا نفسي؛ فقال: (والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك)، فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-:(لا، والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك)، فقال له عمر: فإنه الآن، والله، لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الآن يا عمر).

وقد روى البخاري([2]) ومسلم([3]) من حديث أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا يؤمن أحدكم، حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)، کما روى البخاري([4]) ومسلم([5]) من حديث أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-  قال: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)

ولا شك أن حب العبد لربه يجب أن يكون فوق حبه للنبي ﷺ وفوق حبه لأصحاب رسول الله ﷺ وفوق حبه لنفسه ولولده والناس أجمعين.

على أن محبة العبد لربه ليست في معنی محبة العبد لغير الله؛ فإن المحبة التي يستحقها الله عز وجل هي محبة العبودية المستلزمة الذل والخضوع والتعظيم وكمال الطاعة وإيثاره على غيره، فمن سوّى فيها بين الله وبين أحد من خلقه فقد اتخذه ندا لله، ومن جعل شيئًا من هذه المحبة بهذا المعنى لغير الله فقد أشرك بالله، محبوب المؤمنين الذي يحبونه ويخافونه.

وإذا تحققت محبة الله في قلب العبد أشرقت فيه أنوار السعادة، و إذا ذكر اللهَ خاليًا فاضت عيناه، فانتظم في سلك السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله([6]).

وقوله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 165]، أي: وبعض الناس يجعل لله عز وجل أمثالًا ونظراء وشركاء؛ فيرتكبون بذلك أعظم الجرائم وأكبر الكبائر، كما جاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: (أن تجعل لله ندا وهو خلقك) ([7]).

وقوله عز وجل: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}، أي: یساوونهم بالله في المحبة والتعظيم، ولذلك يندمون يوم القيامة على ذلك أشد الندم؛ فيقولون لأندادهم وهم في جهنم: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97-98].

وقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}، أي: والذين آمنوا قد أخلصوا المحبة لله ولم يشركوا به فيها أحدًا، ولم يذهب منها شيء لغير الله بخلاف هؤلاء المشركين الذين يفرقون ويبعثرون هذه المحبة بين الله وبين خلقه، ولذلك كانت محبة المؤمنين لله أشد من محبة المشركين لله؛ لأن

محبة المؤمنين خالصة ومحبة المشركين مشتركة، ولا شك أن المحبة الخالصة أشد من المحبة المشتركة، ولذلك حملت هذه المحبة الخالصة امرأة فرعون -رضي الله عنها- على طلب القرب من الله في جنات النعيم،  حيث قالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم: 11]،  وقد جعلها الله عز وجل قدوة ومثلًا لكل مؤمن إلى يوم القيامة؛ حيث قال عز وجل: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم: 11].

 وحذّر الله عز وجل المؤمنين أن يكون آباؤهم أو أبناؤهم أو إخوانهم أو أزواجهم أو عشيرتهم أو أموالهم أو تجارتهم أو مساكنهم أحب إليهم من الله ورسوله؛ حيث يقول عز وجل: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].

ولا شك أن محبة رسول الله ﷺ الواردة في هذه الآية الكريمة ليست بمعنى المحبة الواجبة لله عز وجل على عبده، وقد جعل الله عز وجل علامة محبة الله تبارك وتعالى أن يطيع العبد رسول الله ﷺ حيث يقول تبارك وتعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31]، فمحبة العبد لله عز وجل خاصة به، وهي محبة العابد للمعبود؛ ولذلك كان صرف شيء منها لغير الله من ملك أو نبي أو غيرهما شركًا أكبر يخرج من الملة، ويصير صاحبه به مرتدًا عن الإسلام لو كان قد أسلم.

وقد أنكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- مرات كثيرة تفسير من فسَّر قوله تبارك وتعالى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}،  أي كحب المؤمنين لله، وبين أنه متناقض؛ حيث قال رحمه الله: "هذا يناقض أن يكون المؤمنون أشد حبًا لله من المشركين لأربابهم؛ فتبين ضعف هذا القول، وثبت أن المؤمنين يحبون الله أكثر من محبة المشركين لله ولآلهتهم؛ لأن أولئك أشركوا في المحبة والمؤمنون أخلصوها كلها لله"([8]).

وقال أيضًا: "والمقصود هنا أن الشيء إذا انقسم ووقعت فيه الشركة نقص ما يحصل لكل واحد فإذا كان جميعه لواحد كان أكمل فلهذا كان حب المؤمنين الموحدين المخلصين لله أكمل"([9]).

وقال أيضًا: "فمن أحب مخلوقا مثل ما يحب الله فهو مشرك ويجب الفرق بين الحب في الله والحب مع الله"([10]).  

 

 

[1]-  رقم (6632).

[2]-  رقم (15).

[3]-  رقم (44).

[4]-  رقم (16).

[5]-  رقم (43).

[6]-  أخرجه البخاري (660)، ومسلم (1031) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[7]-  أخرجه البخاري (4477)، ومسلم (86) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[8]-  مجموع الفتاوى 8/358.

[9]-  مجموع الفتاوى 7/145.

[10]-  مجموع الفتاوى 15/49.

التصنيفات

التعليقات (0 تعليق) إضافة تعليق