عقوبة عدم الإيمان

2020-06-28
ونحول قلوبهم وأعينهم فلا يفقهون بقلوبهم، ولا يبصرون بأعينهم ما يرونه من الأدلة والبراهين؛ فيستمرون على ما كانوا عليه من العناد والمكابرة، ولا ينتفعون بما اقترحوا من الآيات إذا جاءتهم، فلا يؤمنون بها كما أنهم لم يؤمنوا بما أيّدنا به رسولنا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- من الحجة العظمى وهي القرآن الكريم، وما شاهدوه من انشقاق القمر، حيث كانوا كلما شاهدوا آية أعرضوا وقالوا سحر مستمر، وكذبوا واتبعوا أهواءهم؛ فخذلناهم وتركناهم في ضلالهم يتحيرون ويترددون، عقوبة لهم على عنادهم ومكابرتهم، فإن السيئة تجلب السيئة كما أن الحسنة تجلب الحسنة.

معنى قوله عز وجل: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110]، أي: ونحول قلوبهم وأعينهم فلا يفقهون بقلوبهم، ولا يبصرون بأعينهم ما يرونه من الأدلة والبراهين؛ فيستمرون على ما كانوا عليه من العناد والمكابرة، ولا ينتفعون بما اقترحوا من الآيات إذا جاءتهم، فلا يؤمنون بها كما أنهم لم يؤمنوا بما أيّدنا به

رسولنا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- من الحجة العظمى وهي القرآن الكريم، وما شاهدوه من انشقاق القمر، حيث كانوا كلما شاهدوا آية أعرضوا وقالوا سحر مستمر، وكذبوا واتبعوا أهواءهم؛ فخذلناهم وتركناهم في ضلالهم يتحيرون ويترددون، عقوبة لهم على عنادهم ومكابرتهم، فإن السيئة تجلب السيئة كما أن الحسنة تجلب الحسنة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فمن عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17]، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 66-68]، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد: 28]،  وقال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257]، وقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15-16]، وشواهد هذا كثيرة في الكتاب والسنة.

وكذلك من أعرض عن اتباع الحق الذي يعلمه تبعا لهواه؛ فإن ذلك يورثه الجهل والضلال حتى يعمى قلبه عن الحق الواضح كما قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف: 5]، وقال تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضً} [البقرة: 10]، وقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 109]، {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110]، وهذا استفهام نفي وإنكار: أي وما يدريكم أنها إذا جاءت لا يؤمنون، وإنّا نقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة على قراءة من قرأ إنها بالكسر تكون جزمًا بأنها إذا جاءت لا يؤمنون ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة؛ ولهذا قال من قال من السلف كسعيد بن جبير: إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها وإن من عقوبة السيئة السيئة بعدها، وقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صدّيقا، وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذّابا»([1])، فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الصدق أصل يستلزم البر، وأن الكذب يستلزم الفجور"([2]).

وقال ابن تيمية -رحمه الله- أيضًا: "ومما ذكر فيه العقوبة على عدم الإيمان: قوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110]، وهذا من تمام قوله { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} [الأنعام: 109-110]، الآية، فذكر: أن هذا التقليب إنما حصل لقلوبهم لما لم يؤمنوا به أول مرة، وهذا عدم الإيمان"([3]).

وقد قلت في تفسير قوله تبارك وتعالى في الآية الخامسة عشرة من سورة البقرة: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15]، أي: يزيدهم على وجه الإملاء والترك لهم في عتوهم وتمردهم کما فعل بنظرائهم في قوله عز وجل: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110]، یعني: نذرهم ونتركهم فيه ونملي لهم ليزدادوا إثما على إثمهم وضلالا فوق ضلالهم وعتوًا على عتوهم.

والطغيان: مجاوزة الحد والغلو في الكفر، والإسراف في المعاصي والظلم، ومعنی {يعمهون}؛ أي: يتيهون في الضلالة ويتحيرون ويترددون ولا يهتدون سبيلا. قال في القاموس المحيط: " العمه التحير والتردد، وقد عَمِهَ بالكسر فهو عَمِهٌ وعامِهٌ، والجمع عُمّةٌ. قال رؤبة:

ومَهْمَهٍ أطرافُه في مَهْمَهِ ** أعمى الهُدى بالجاهلين العُمّهِ

وأرض عَمهاء: لا أعلام بها، وذهبت إبلُهُ العُمّهَي: إذا لم يدر أين ذهبت"([4]).

وقال ابن منظور في لسان العرب: قال ابن الأثير([5]): "العمه في البصيرة كالعمى في البصر"([6]).

 هذا وقد أرشد الله تبارك وتعالى العباد إلى أسباب فوزهم ونجاتهم بالالتجاء إليه، والاعتماد عليه، والانتهاء عن معاصيه؛ فقال: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3]،  وقال عز وجل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، وقال عز وجل: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 135-136].

وعلى العبد أن يكثر من سؤال الله عز وجل أن يثبّته بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن يقول: يا حي يا قيوم، يا بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، برحمتك أستغيث؛ فأصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين. والله در القائل:

إذا كان عون الله للعبد مسعفًا ** تأتي له من كل شيء مراده

 

وإن لم يكن عونٌ من الله للفتی ** فأول ما يقضي عليه اجتهاده

ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم([7]).

 

[1]- أخرجه البخاري (6094)، ومسلم (2607).

[2]- مجموع الفتاوى 10/10-11.

[3]- مجموع الفتاوى 14/338.

[4]- ينظر: القاموس المحيط ص1250، ماده: العمه.  

[5]- النهاية في غريب الحديث 3/304.  

[6]- لسان العرب 13/519.  

[7]- تهذيب التفسير وتجريد التأويل 5/51-54.  

التصنيفات

التعليقات (0 تعليق) إضافة تعليق