عقوبة من يكتم العلم
ذكرت في تفسير الآية التاسعة والخمسين بعد المائة من هذه السورة المباركة([1]) أن الله تبارك وتعالى ذكر في مقامات من هذه السورة: أن أهل الكتاب یکتمون الحق وهم يعرفونه؛ محذرًا من سلوك طريقهم في هذا السبيل، وأنه حذّر المسلمين في هذه الآية المباركة، أعني الآية التاسعة والخمسين بعد المائة، أشدّ التحذير من أن يسلكوا مسلك أهل الكتاب فيكتموا شيئًا من العلم والبينات والهدى التي بينها الله في القرآن، وأن من كتم شيئًا من ذلك استحق لعنة الله ولعنة اللاعنين من الملائكة والمؤمنين إلا من تاب وأصلح وبين.
وقد أكد الله تبارك وتعالى هنا هذا التحذير مرة أخرى؛ لشدة خطورته وسوء عاقبته فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 174]، وقد وصف الله -تبارك وتعالى- هؤلاء هنا بأنهم يكتمون ما أنزل الله من الكتاب، وأنهم يشترون به ثمنًا قليلا، ورتب على هذين الوصفين أربع عقوبات:
- الأولى: أنهم ما يأكلون في بطونهم إلا النار.
- والثانية: أنهم لا يكلمهم الله يوم القيامة.
- والثالثة: أن الله لا يزكيهم.
- والرابعة قوله: ولهم عذاب أليم.
ولا شك أن كل وعيد في كتاب الله عز وجل بلفظ عام على معصية من المعاصي؛ فإنه يعم جميع مرتكبي هذه المعصية، من أي جنس ومن أي لون، ولا سيما إذا لم يكن قد ثبت سبب صحیح لنزول الآية، أو ورد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تخصيص عمومها بحديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحتى لو صح خبرٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن أحد الصحابة في سبب نزول الآية الواردة بلفظ عام ولم يرد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تخصیص عمومها؛ فإن القاعدة الأصولية المعتبرة عند أهل العلم: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وبهذا يكون الوعيد الوارد في هذه الآية الكريمة شاملًا لأهل الكتاب ولعلماء المسلمين ممن یکتم الحق المبين في كتاب الله أو في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك قال أبو ذر -رضي الله عنه- في قوله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34]، مع أن صدر الآية في ذكر سوء سلوك الأحبار والرهبان لكنه قال -رضي الله عنه-: "هي فينا وفيهم"، والذي حمله -رضي الله عنه- على ذلك هو عموم اللفظ الوارد فيها؛ فقد روى البخاري في صحيحه([2]) من طريق زيد بن وهب قال: «مررت على أبي ذر -رضي الله عنه- بالربذة، فقلت: ما أنزلك هذه الأرض؟ قال: كنا بالشام، فقرأت: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34]، قال معاوية: ما هذه فينا، ما هذه إلا في أهل الكتاب، قال: قلت: إنها لفينا وفيهم».
وقوله عز وجل هنا: {وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}، أي: ويأخذون ثمنًا تافهًا من حطام الدنيا في مقابلة كتمان الهدى الذي بينه الله في الكتاب، إما رشوة أو محافظة على منصب أو جاه لا بقاء له ولا دوام، وليس الوعيد بالعقوبات الأربع الواردة في هذه الآية مشروطًا بهذه المقايضة الخاسرة، بل هذا الوعيد ثابت للذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب حتى ولو لم يشتروا شيئًا، ولو لم يحصلوا على حطام الدنيا الفانية، فإن المقصود هنا هو تحریم الكتمان وهو الذي سيق الكلام من أجله، أما الصفة الثانية وهي قوله: {وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}، فهو بيان لخسة البدل الذي أخذوه في نظير الحق العظيم الذي ضيعوه وكتموه، فهو تهجين لهم على قبیح فعلهم مع ما يترتب على معاقبتهم بجعل ما أكلوه نارًا في بطونهم.
وقوله عن وأولئك: {مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ}، أي: هؤلاء السفهاء الذين يكتمون هدى الله ويشترون به ثمنًا قليلًا ما يجلبون لأنفسهم إلا أن يملأ الله بطونهم نارا يوم القيامة، وقال ابن جرير في تفسير هذه الآية: كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]، معناه: ما يأكلون في بطونهم إلا ما يوردهم النار بأكلهم، ما يأكلون في بطونهم إلا ما يوردهم النار بأكلهم. فاستغنى بذكر النار وفهم السامعين معنى الكلام عن ذكر ما يوردهم أو يدخلهم" اهـ([3]).
قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: "وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الذي يأكل أو يشرب في آنية الذهب والفضة، إنما يجرجر في بطنه نار جهنم([4])"([5]).
وقوله عز وجل: {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، هذه هي العقوبة الثانية التي توعّد الله بها من كتم الهدى، ولا شك أن أهل السنة والجماعة يثبتون صفة الكلام الله عز وجل على الوجه الذي يليق برب العزة والجلال، ومن كلامه تبارك وتعالى: القرآن الذي سمعه جبريل من الله عز
وجل وألقاه على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [لقمان: 27]، وكما أشار الله عز وجل إلى أنه يسلِّم على المؤمنين في الجنة بكلام يسمعونه فيسعدون به سعادة فوق سعادتهم بنعيم الجنة، حيث يقول جل وعلا: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 55-58].
وقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما([6]) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة؟ فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك، فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك، قالوا: يا رب، وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدا».
ولما كان كلام الله تبارك وتعالى لأهل الجنة كلام تحية ورحمة وتكريم؛ فإنه عز وجل يحرم من هذا الكلام أعداءه فلا يكلمهم بما یدخل عليهم سرورًا وتكریمًا، ولذلك كان كلام الله عز وجل لموسى -عليه السلام- من أعلى درجات التكريم، حتى وصف موسی -علیه السلام- بأنه كليم الله، کما قال عز وجل: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة: 253]، وكما قال عز وجل: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، ولذلك جاء في حديث الشفاعة الذي أخرجه البخاري ومسلم([7]) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : "فيأتون موسی فيقولون: يا موسى أنت رسول الله اصطفاك الله برسالاته وبتكليمه على الناس، اشفع لنا إلى ربك"، الحديث.
وإذا كان كلام الرب جل وعلا تكريمًا لأوليائه؛ فإنه يحرم منه مَن غضب عليهم؛ ولذلك قال في هذا المقام الكريم في الذين يكتمون الحق الذي بيّنه الله في الكتاب ولا يتوبون ولا يبيّنون ولا يصلحون قال: {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، ولا شك أن الكلام المنفي هنا هو ما كان لتكريمهم، أما ما كان لتیئیسهم من رحمته ولتوبيخهم على كفرهم به؛ فإنه غير مراد في هذا المقام الكريم، ولما كان يوم القيامة يومًا طويلا وفيه مقامات كثيرة فإنه تعرض مقامات يوبخ الله فيها الكافرين، وتعرض مقامات لا يكلمهم، وقد أشار الله تبارك وتعالى إلى بعض هذه المقامات حيث يقول: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون: 106-111].
أما العقوبة الثالثة؛ فهي قوله عز وجل: {وَلَا يُزَكِّيهِمْ}، أي: لا يثني عليهم ولا يمدحهم بل يلعنهم ويمقتهم.
أما العقوبة الرابعة؛ فهي ما أعده الله لهم في نار جهنم بقوله عز وجل: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، أي: ولهم عقاب مؤلم موجع.
وهذه العقوبات قد ذكرها الله عز وجل في سورة آل عمران، وأعدها للذين يشترون بعهد الله وايانهم ثمنًا قليلًا، حيث يقول عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77] ([8]).
[1] - وهو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}.
[2] - رقم (1406).
[3] - جامع البيان، ابن جرير الطبري 3/66.
[4] - أخرجه البخاري (5634) ومسلم (2065) من حديث أم سلمة رضي الله عنها.
[5] - تفسير القرآن العظيم 1/483.
[6] - البخاري رقم (6549)، ومسلم رقم (2829).
[7] - جامع البيان، ابن جرير الطبري 3/66.
[8] - تهذيب التفسير وتجريد التأويل 1/370-374.
-
2024-06-25 توحيد الربوبية وضلال الكفار
-
2024-06-25 بداية دخول الشرك على البشرية
-
2024-06-25 بيان ضلال نظريات فرويد
التعليقات (0 تعليق) إضافة تعليق