اشتمال قوله تعالى: {وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ...} على إشارات بلاغية تنبه إلى إعجاز القرآن

قال تعالى: {وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 85].

هذا تأكيد لقوله عز وجل في الآية الخامسة والخمسين من هذه السورة المباركة حيث يقول عز وجل: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 55]، فهاتان الآيتان من المتشابه المثاني الذي ذكره الله عز وجل بقوله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر: 23]، وليس هذا تكريراً مجرداً، بل كل آية من الآيتين قد اشتملت على إشارات بلاغية تنبه إلى إعجاز القرآن، حيث اقترنت جملها بحروف تناسب مقام كل واحدة من الآيتين وتنادي ببلاغة وأنها في الذروة التي سيقت فيه.

فقد قال في الآية الأولى: {فَلَا تُعْجِبْكَ}، بالفاء وقال هنا: {وَلَا تُعْجِبْكَ} بالواو، والفرق بينهما أنه عطف الآية الأولى على قوله: {وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 54]، ووصفهم بكونهم كارهين للإنفاق لشدة المحبة للأموال والأولاد فحسن العطف عليه بالفاء في قوله: {فَلَا تُعْجِبْكَ}، وأما في هذه الآية فليس في الآية التي قبلها ذكر للإنفاق فكانت مستأنفة لا تناسبها الفاء وإنما يناسبها الواو التي للاستئناف.

وقال تعالى في الأولى: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ} [التوبة: 55]، وأسقط حرف: (لا) هنا فقال: {وَأَوْلَادُهُمْ} [التوبة: 85]، والسبب أن حرف (لا) دخل في الآية لزيادة التأكيد ليدل على أنهم كانوا معجبين بالأموال والأولاد وإعجابهم بالأولاد أكثر، وفي إسقاط حرف (لا) هنا إشعار بتساويهما وعدم الفرق بينهما حيث اختلفت الحالتان.

وقال تعالى في الآية الأولى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} [التوبة: 55]، بحرف اللام، وقال هنا: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ} [التوبة: 85]، بحرف (أن)، لأن جرسها أنسب في هذا المقام، ولا شك أن اللام و(أن) يتعادلان فتأتي إحداهما مكان الأخرى، كما قال عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} [البينة: 5]، ومعناه: وما أمروا إلا أن يعبدوا الله. وكما قال عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} [النساء: 26]، وقال: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 27].

وقال تعالى في الآية الأولى: {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [التوبة: 55]، وقال هنا: {فِي الدُّنْيَا} [التوبة: 85]، فهذه التصاريف البلاغية نلفت الانتباه إلى أن هذا القرآن العظيم قد أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير.

تهذيب التفسير وتجريد التأويل: ص165-166