في قوله تعالى: {وَرُوحٌ مِنْهُ} (مِنْ) لابتداء الغاية لا للتبعيض

2020-06-23
في قوله تعالى: {وَرُوحٌ مِنْهُ} (مِنْ) لابتداء الغاية لا للتبعيض
الفائدة الثامنة من لطائف قرآنية من تفسير سورة آل عمران من كتاب تجريد التأويل لفضيلة الشيخ عبد القادر شيبة الحمد والتي تدور حول أن في قوله تعالى: {وَرُوحٌ مِنْهُ} (مِنْ) لابتداء الغاية لا للتبعيض.

وكان نصارى نجران عندما وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة التاسعة من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم حاولوا الاستدلال على أن عيسى هو ابن الله ببعض ألفاظ في كتاب الله، حاملين لها على غير ما أريد بها بسبب زيغ قلوبهم ابتغاء الفتنة والصد عن سبيل الله، فزعموا أنّ في القرآن دليلاً على أن عيسى ابن الله في قوله عز وجل: {وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171]، إذ حملوا لفظ (من) في قوله: {وَرُوحٌ مِنْهُ} على التبعيض، فيكون عيسى بعضاً من الله تعالى وجزء منه، وتجاهلوا أنّ (من) في هذا المقام لا يراد بها التبعيض، وإنما يراد بها ابتداء الغاية، أي: أن عيسى روحٌ من الأرواح التي ابتدأ الله خلقها، وتعاموا عن الآيات الكثيرة الصريحة في أن عيسى عبدٌ لله وخلقٌ من خلقه، والعبد لا يكون ولداً، وأن الله لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحدٌ.

ولا شك أن العرب يستعملون كلمة (من) في معان كثيرة منها ابتداء الغاية كهذه، ومن معانيها بيان الجنس كقوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30]، أي: اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان، وتأتي للتعليل كقوله عز وجل: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} [نوح: 25]. وتأتي للبدل كقوله تعالى: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ} [التوبة: 38]. وتأتي للغاية كقولك: رأيته من هذا الموضع، حيث جعلته غاية لرؤيتك، أي: محلاً للابتداء، وتجيء للتنصيص على العموم كقوله تعالى: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 62]، وتأتي للفصل وهي الداخلة على ثاني المتضادين كقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ}[البقرة: 220]، وتجيء بمعنى الباء كقوله تعالى: {يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى: 45]، وتأتي بمعنى (عن) كقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ} [الزمر: 22]، وتأتي بمعنى (في) كقوله تعالى: {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} [فاطر: 40]، وتأتي بمعنى (عند) كقوله تعالى: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [آل عمران: 10]، وتأتي بمعنى (على) كقوله تعالى: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأنبياء: 77]، وتأتي للتبعيض كقوله تعالى: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة: 253]، والسّياق هو الذي يحدّد المعنى المراد ويبيّنه، لكن نصارى نجران تركوا المعنى الظاهر المتبادر الجلي المحكم، ولجأوا إلى المعنى غير المراد مستغلين تشابه اللفظ لزيغ قلوبهم وفساد نياتهم.

تهذيب التفسير وتجريد التأويل: 2/296-297

التعليقات (0 تعليق) إضافة تعليق