الأمر في قوله تعالى: {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} للتهديد، وليس فيه دليل على جواز الثبات على الكفر

2020-09-02
الأمر في قوله تعالى: {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} للتهديد، وليس فيه دليل على جواز الثبات على الكفر
الفائدة مائة وتسعة من لطائف قرآنية من تفسير سورة الأنعام من كتاب تجريد التأويل لفضيلة الشيخ عبد القادر شيبة الحمد والتي تدور حول أن الأمر في قوله تعالى: {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} للتهديد، وليس فيه دليل على جواز الثبات على الكفر.

والمقصود من الأمر في قوله: {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} [الأنعام: 135]، التهديد، ومعنى: {عَلَى مَكَانَتِكُمْ}، أي: على غاية تمكنكم واستطاعتكم في بذل كلِّ ما تستطيعون، فالمكانة مصدر مكن إذا تمكن أبلغ التمكن، وهذا غايةٌ في عدم المبالاة بهم وبكيدهم، ولا يراد من مثل هذا الأمر طلب الفعل؛ لأن الأمر قد يرد لطلب الفعل نحو قوله -عز وجل-: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43]، وكقوله -عز وجل-: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]، وقد يكون الأمر للإباحة كقوله -عز وجل-: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، وتأتي هذه الصيغة للإكرام نحو قوله -عز وجل-: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} [الحجر: 46]، كما ترد صيغة الأمر للإهانة كقوله -عز وجل-: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49]، وتأتي للتهديد كقوله -عز وجل-: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]، وكقوله -عز وجل-: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، وكقوله -عز وجل- هنا: {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ}.

وتأتي صيغة الأمر أيضاً للتعجيز نحو قوله -عز وجل-: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} [الإسراء: 50-51]، وتأتي للتسخير كقوله -عز وجل-: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65]، وتأتي للتكوين كقوله -عز وجل-: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]، وتأتي للتسوية كقوله -عز وجل-: {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا} [الطور: 16]، وتأتي للتمني كقول الشاعر:

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي    بصبح وما الإصباح منك بأمثل

وتأتي للاحتقار كقوله -عز وجل-: {قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} [يونس: 80]، وتأتي بمعنى الخبر الماضي كقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت)، أي: صنعت ما شئت، وكقوله -عز وجل-: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} [مريم: 38]، أي: ما أسمعهم وما أبصرهم، وتأتي للتعجيب كقوله -عز وجل-: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} [الإسراء: 48]، وتأتي للتكذيب كقوله -عز وجل-: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 93]، وتأتي للاعتبار كقوله -عز وجل-: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} [الأنعام: 99]، وتأتي للمشورة كقوله: {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات: 102]، وبهذا يتضح أن صيغة الأمر قد ترد لغير طلب الفعل كما في قوله -عز وجل- هنا: {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} [الأنعام: 135]، فليس لأحد أن يدَّعي أن قوله -عز وجل-: {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} دليل على جواز الثبات على الكفر.

قال الزجاج رحمه الله: فإن قال قائل: فكيف يجوز أن يأمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقيموا على الكفر فيقول لهم: {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} [الأنعام: 135]، فإن معنى هذا الأمر المبالغة في الوعيد، لأن قوله لهم: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 135]، قد أعلمهم أن من عمل بعملهم فإلى النار مَصِيرُه، فقال لهم: أقيموا على ما أنتم عليه إن رضيتم العذاب بالنار ا ه.

والمخاطبون يعلمون علم اليقين أن قوله لهم: {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ}، ليس إذناً لهم بالاستمرار على الكفر وأنهم موقنون بأن هذا الأمر للتهديد كما قال لهم في سورة الكهف: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، لأنه قال بعدها مباشرة: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 29]، فلا يخطر ببال عاقل أن قوله: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}، إِذْنٌ وتخييرٌ بين الإيمان والكفر.

تهذيب التفسير وتجريد التأويل: ص81-82-83

التصنيفات

التعليقات (0 تعليق) إضافة تعليق