لقد وصف الله تبارك وتعالى هنا رؤساء بني إسرائيل المعاصرين لرسوله وحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم، بأنهم يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم؛ فلا يحملونها على البر حالة كونهم يقرءون التوراة ويعلمون عقوبة الله عزوجل لمن نهى عن المنكر وهو يفعله، ويأمر بالمعروف وهو لا يفعله، وهذا من أبرز الأدلة على أن صاحب هذه الصفة غير متصف بالعقل.
بعد أن أثنى الله عز وجل على كتابه الكريم المنزّل على نبيه العظيم سيد الخلق وأفضل الرسل صلى الله عليه وسلم، ووصف هذا الكتاب العظيم بأنه مصدّق للكتب السماوية ومهيمن عليها؛ حيث اشتمل على ما فيها من الحق الثابت، وبيّن ما ألحقه أحبار السوء بها من التحريف والتغيير والتأويل الفاسد.
قال تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة: 51-53]، وقد كان موسى عليه السلام عندما بعثه الله عز وجل إلى فرعون إنما بعثنه بأصول الدين من التوحيد، وإقامة الصلاة لذكر الله، ووجوب الإيمان بالبعث بعد الموت، ولم يكن قد أنزل عليه التوراة.
بعد أن ذكر الله تبارك وتعالى أن السحرة خيّروا موسى -عليه السلام- بين أن يكون هو البادئ بإلقاء عصاه، أو أن يكونوا هم البادئين، وأن موسى -عليه السلام- أمرهم أن يكونوا هم أول من ألقى، وأنهم لما ألقوا یعني حبالهم وعصيهم سحروا أعين الناس، وأدخلوا الفزع والرعب والرهبة والخوف في قلوبهم، بسبب ما جاءوا به من السحر العظيم؛ شرع عز وجل هنا فبين أنه أوحى إلى موسى بإلقاء عصاه فابتلعت جميع حبالهم وعصيهم التي خُيّل إلى الناس أنها حيات وثعابين، وأن الله تبارك وتعالى قد أظهر برهان موسی -عليه السلام- وأيده بهذه المعجزة الباهرة، وأبطل ما جاء به السحرة؛ فاندحر فرعون وقومه وانقلبوا أذلة صاغرين، إلا السحرة.
الإقرار بربوبية الله مركوز في النفوس وإن كانت تحجبه أحياناً سُحُبُ الزندقة والإلحاد، فقد أثر أن بعض الزنادقة أنكر الخالق عند جعفر الصادق -رحمه الله- فقال له جعفر: هل ركبت البحر؟ قال: نعم، قال: هل رأيت أهواله؟ قال: بلى؛ هاجت يومًا ریاح هائلة فكسرت السفن وغرقت الملاحين، فتعلقت أنا ببعض ألواحها، ثم ذهب عني ذلك اللوح؛ فإذا أنا مدفوع في تلاطم الأمواج؛ حتى دُفعت إلى الساحل.
قرر الله تبارك وتعالى أن الناس كانوا أمواتًا فأحياهم ثم يميتهم ثم يحييهم، ويشير عز وجل بذلك إلى أن الإنسان كان في طور من أطواره جمادا کالموات لا أثر فيه للحياة؛ حيث كان أغذية ثم هضمها فتحولت إلى المني، الذي لو وضعته تحت المجهر ما رأيتَ أيَّ أثر لصورة الإنسان فيه.
قوله عز وجل: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]، هذه قواعد السياسية الرشيدة التي تربط بين الراعي والرعية برباط الحب والثقة والطمأنينة.
هذه آية الكرسي وهي أعظم آية في كتاب الله، وقد جعل الله تبارك وتعالى فيها وضمّنها ما لم تتضمنه آية واحدة أخرى في كتاب الله عز وجل، وما تضمنته إنما تتضمنه آيات كثيرة لا آية واحدة، وقد جعل الله تبارك وتعالى فيها من الخصائص الشيء الكثير ما صحت بذلك الأخبار عن رسول الله ﷺ.
قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، قال ابن کثیر -رحمه الله- في تفسيره: "أي لا نعبد إلا إياك، ولا نتوكل إلا عليك، وهذا هو کمال الطاعة، والدين كله يرجع إلى هذين المعنيين.
وهذا كما قال بعض السلف: الفاتحة سير القرآن، وسرُّها هذه الكلمة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، فالأول: تبرؤ من الشرك، والثاني: تبرؤ من الحول والقوة، والتفويض إلى الله عز وجل.
وقد أخبر الله عز وجل أن الكفار محجوبون عن رؤية الله يوم القيامة، وقد أشار الله عز وجل إلى أن رؤية المؤمنين جنات النعيم هي أعظم لذات الجنة؛ حيث يقول: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، فقد فسَّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الزيادة في الآية بأنها النظر إلى وجه الكريم، وأنه ما أعطاهم شيئًا هو أحب إليهم من النظر إليه کما رواه مسلم في صحيحه من حديث صهیب رضي الله عنه، وكما قال عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22-23].
هو صاحب الفضيلة الشيخ عبدالقادر بن شيبة الحمد بن يوسف شيبة الحمد الهلالي، من أسرة تنتمي إلى قبيلة بني هلال المعروفة التي انتقل بعضها من الجزيرة العربية، ولد بمصر في العشرين من شهر جمادى الآخرة عام ١٣٣٩هـ الموافق للثامن والعشرين من شهر فبراير عام ١٩٢١م المزيد